باب فى صفايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأموال

باب فى صفايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأموال

 حدثنا الحسن بن على ومحمد بن يحيى بن فارس المعنى قالا حدثنا بشر بن عمر الزهرانى حدثنى مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال أرسل إلى عمر حين تعالى النهار فجئته فوجدته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله فقال حين دخلت عليه يا مال إنه قد دف أهل أبيات من قومك وإنى قد أمرت فيهم بشىء فاقسم فيهم. قلت لو أمرت غيرى بذلك. فقال خذه . فجاءه يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك فى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص قال نعم. فأذن لهم فدخلوا ثم جاءه يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك فى العباس وعلى قال نعم. فأذن لهم فدخلوا فقال العباس يا أمير المؤمنين اقض بينى وبين هذا - يعنى عليا - فقال بعضهم أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وارحمهما. قال مالك بن أوس خيل إلى أنهما قدما أولئك النفر لذلك . فقال عمر رحمه الله اتئدا. ثم أقبل على أولئك الرهط فقال أنشدكم بالله الذى بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال « لا نورث ما تركنا صدقة ». قالوا نعم. ثم أقبل على على والعباس رضى الله عنهما فقال أنشدكما بالله الذى بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال « لا نورث ما تركنا صدقة ». فقالا نعم . قال فإن الله خص رسوله -صلى الله عليه وسلم- بخاصة لم يخص بها أحدا من الناس فقال الله تعالى (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شىء قدير) وكان الله أفاء على رسوله بنى النضير فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أخذها دونكم فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذ منها نفقة سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة ويجعل ما بقى أسوة المال. ثم أقبل على أولئك الرهط فقال أنشدكم بالله الذى بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ذلك قالوا نعم. ثم أقبل على العباس وعلى رضى الله عنهما فقال أنشدكما بالله الذى بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان ذلك قالا نعم. فلما توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر أنا ولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجئت أنت وهذا إلى أبى بكر تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها فقال أبو بكر رحمه الله قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « لا نورث ما تركنا صدقة ». والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق فوليها أبو بكر فلما توفى أبو بكر قلت أنا ولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولى أبى بكر فوليتها ما شاء الله أن أليها فجئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها فقلت إن شئتما أن أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذى كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يليها فأخذتماها منى على ذلك ثم جئتمانى لأقضى بينكما بغير ذلك والله لا أقضى بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إلى. قال أبو داود إنما سألاه أن يكون يصيره بينهما نصفين لا أنهما جهلا أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال « لا نورث ما تركنا صدقة ». فإنهما كانا لا يطلبان إلا الصواب.
فقال عمر لا أوقع عليه اسم القسم أدعه على ما هو عليه.

الأنبياء والمرسلون لهم بعض الخصائص التي ميزهم الله بها عن بقية أممهم، ومن هذا: أنهم لا يورثون، وإن تركوا مالا فهو صدقة في سبيل الله؛ لأنهم إنما يورثون من وراءهم من ذرية أو أتباع العلم والدعوة
وفي هذا الحديث تحكي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن فاطمة رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم، أرسلت إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعدما تولى الخلافة، تسأله عن ميراثها من أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما أعطاه الله من مال الكفار من غير حرب، ولا جهاد بالمدينة، نحو أرض يهود بني النضير حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة من الهجرة، وقيل: في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة، وكانوا يسكنون جنوب المدينة المنورة، وأرض فدك مما صالح أهلها على نصف أرضها، وفدك: قرية بخيبر، وقيل: بناحية الحجاز، فيها عين ونخل، وما بقي من خمس خيبر، وهي قرية كانت يسكنها اليهود، وكانت ذات حصون ومزارع، وتبعد نحو 170 كم تقريبا من المدينة إلى جهة الشام، وقد غزاها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وفتحها الله لهم في السنة السابعة من الهجرة
فرفض أبو بكر رضي الله عنه ذلك، وذكر لها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأنبياء لا يورثون، وما تركوه من مال فهو صدقة على الفقراء والمساكين، ويوزعها ولي الأمر من بعدهم، وليس لورثته إلا ما يكفيهم من قوت وطعام، ويقيم حياتهم. قال أبو بكر رضي الله عنه: وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فغضبت فاطمة رضي الله عنها على أبي بكر رضي الله عنه وهجرته، ولم تكلمه حتى توفيت، وكان هجر انقباض عن لقاء الصديق رضي الله عنه، لا القطيعة، والهجران المحرم، ولعلها تمادت في الهجر طيلة هذه المدة لاشتغالها بشؤونها، ثم بمرضها رضي الله عنها، وقد عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليلا؛ قيل: كان هذا بوصية منها رضي الله عنها؛ لزيادة التستر، ولم يعلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بها أبا بكر رضي الله عنه؛ لأنه ظن أن ذلك لا يخفى عنه، وليس فيه ما يدل على أن الصديق رضي الله عنه لم يعلم بموتها ولا صلى عليها، وصلى عليها علي رضي الله عنه، وكان الناس يحترمونه حياة فاطمة رضي الله عنها إكراما لها، فلما توفيت رأى علي رضي الله عنه في وجوه الناس تغيرا لا يعجبه، حيث قصروا عن ذلك الاحترام الذي كان يراه طيلة حياة فاطمة رضي الله عنها؛ لاستمراره على عدم مبايعته أبا بكر رضي الله عنه، وكانوا يعذرونه أيام حياة فاطمة رضي الله عنها عن تأخره عن ذلك باشتغاله بها، وتسلية خاطرها، فالتمس علي رضي الله عنه مصالحة أبي بكر رضي الله عنه ومبايعته، ولم يكن بايع أبا بكر رضي الله عنه تلك الأشهر الستة، ولعل ذلك إما لاشتغاله بفاطمة رضي الله عنها، أو اكتفاء بمن بايعه، فأرسل علي إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أن ائتنا، ولا يأتنا أحد معك؛ وذلك حتى لا يأتي عمر رضي الله عنه معه؛ وذلك لما عرفوه من قوة عمر رضي الله عنه، وصلابته في القول والفعل، فربما تصدر منه معاتبة تفضي إلى خلاف ما قصدوه من المصافاة
فقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه لما بلغه ذلك: لا والله، لا تدخل عليهم وحدك، وكأن عمر رضي الله عنه خاف أن يتركوا من تعظيم أبي بكر وتوقيره ما يجب له، ولكن أبا بكر رضي الله عنه قال له: وما تظن أن يفعل بي علي رضي الله عنه ومن معه؟! والله لآتينهم، فدخل عليهم أبو بكر رضي الله عنه، فتشهد علي رضي الله عنه، فقال: إنا قد عرفنا فضلك، وما أعطاك الله، ولم نحسدك على الخلافة، ولكنك استبددت علينا بالأمر، ولم تشاورنا في أمر الخلافة، وكنا نرى -لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم- نصيبا من المشاورة، ولم يزل علي رضي الله عنه يذكر له ذلك حتى فاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه من الرقة
وهنا رد أبو بكر رضي الله عنه، فحلف أن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أن يصل رحمه، وأن ما وقع من التنازع في الأموال التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقصر فيها، ولم يترك أمرا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعه
فاتفقوا على البيعة بعد الزوال -بعد صلاة الظهر-، فلما صلى أبو بكر رضي الله عنه الظهر علا المنبر، فتشهد، وذكر شأن علي رضي الله عنه، وتخلفه عن البيعة، وأنه قبل عذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر.
ثم تشهد علي رضي الله عنه، فعظم حق أبي بكر رضي الله عنه، وذكر فضله وسابقته في الإسلام، ثم مضى إلى أبي بكر رضي الله عنه، فبايعه، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع من التأخر حسد، ولا إنكار للذي فضله الله به، ولكن كانوا يرون أن لهم في أمر الخلافة نصيبا، فاستبد عليهم، فغضبوا في أنفسهم.
ففرح بذلك المسلمون، وقالوا: أصبت. وكان ود المسلمين إلى علي رضي الله عنه قريبا حين راجع الأمر بالمعروف، وهو الدخول فيما دخل الناس فيه من المبايعة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه
وفي الحديث: أن أموال النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها خليفته في مصالح المسلمين
وفيه: أنه يلزم العالم أن يظهر ما عنده من العلم وقت الحاجة، ولا يكتمه، ولا يخاف في الحق لومة لائم
وفيه: فضيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وحسن تدبيرهما للأمور