‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1135

مسند احمد

‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1135

حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام، حدثنا إسحاق، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث حراما خاله أخا (1) أم سليم في سبعين رجلا، فقتلوا يوم بئر معونة، وكان رئيس المشركين يومئذ عامر بن الطفيل، وكان هو أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اختر مني ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل، ويكون لي أهل الوبر، أو أكون خليفة من بعدك، أو أغزوك بغطفان ألف أشقر وألف شقراء، قال: فطعن (2) في بيت امرأة من بني فلان فقال: غدة كغدة البعير في بيت امرأة من بني فلان، ائتوني بفرسي، فأتي به فركبه، فمات وهو على ظهره، فانطلق حرام أخو أم سليم، ورجلان معه رجل من بني أمية، (3) ورجل أعرج، فقال لهم: كونوا قريبا مني حتى آتيهم، فإن آمنوني، وإلا كنتم قريبا، فإن قتلوني أعلمتم أصحابكم، قال: فأتاهم حرام فقال: أتؤمنوني أبلغكم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم؟ قالوا: نعم، فجعل يحدثهم وأومئوا إلى رجل منهم من خلفه، فطعنه حتى أنفذه بالرمح، قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، قال: ثم قتلوهم كلهم غير الأعرج، كان في رأس جبل، قال أنس: فأنزل علينا وكان مما يقرأ، فنسخ: أن بلغوا قومنا، أنا لقينا ربنا، فرضي عنا، وأرضانا، قال: " فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أربعين صباحا: على رعل، وذكوان، وبني لحيان، وعصية الذين عصوا الله ورسوله " (1)

كان القُرَّاءُ على عهْدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن خَيرِ الناسِ؛ يَتعلَّمون القرآنَ ويُعلِّمونَه، وكانوا عَونًا للمسلمينَ وقْتَ الحاجةِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَثَ سَبعينَ رجُلًا مِن القُرَّاءِ إلى بَني عامرِ بنِ صَعْصعةَ مِن أهْلِ نَجْدٍ؛ لِيَدْعُوهم إلى الإسلامِ.
وقولُه: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَقْوامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ» خَطأٌ، والصَّوابُ -كما في الصَّحيحينِ- أنَّهم مَبعوثٌ إليهم، والمَبْعوثون هم رِجالٌ مِن الأنصارِ. وكان حَرامُ بنُ مِلْحانَ رَضيَ اللهُ عنه -خالُ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه- أميرًا عليهم.
فلَمَّا جاؤوا إلى بَني عامرٍ قالَ لهم حَرامُ بنُ مِلْحانَ: «أتَقَدَّمُكُمْ؛ فإنْ أَمَّنُونِي حتَّى أُبَلِّغَهُمْ عن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإلَّا كُنْتُم مِنِّي قَرِيبًا»، فلمَّا تَقدَّمَ حَرامُ بنُ مِلْحانَ رَضيَ اللهُ عنه أمَّنوه، فبيْنما هو يُكلِّمُهم عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذْ أوْمَؤُوا إلى رَجُلٍ منهم -والإيماءُ: هو الإشارةُ باليدِ أو العينِ أو غيرِهما- فطَعَنَه برُمحِه طَعنةً شَديدةً حتى نَفَذَ مِن النَّاحيةِ الأُخرى، فقال حَرامٌ: اللهُ أَكبَر! فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، حيثُ نال الشَّهادةَ.
ثمَّ أخبَرَ أنسٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم مالُوا علَى بَقِيَّةِ أصحابِه، فقَتَلوا السَّبعينَ جَميعًا، إلَّا رَجُلًا أَعْرَجَ -هو كَعبُ بنُ زيدٍ الأنصاريُّ- صَعِدَ الجَبَلَ؛ هَرَبًا مِن القتْلِ، وقولُه: «فأُراهُ آخَرَ معه»، أي: نجَا معه رجلٌ آخرُ، قيل هو: عمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمْرِيُّ.
فأَخْبَرَ جِبريلُ عليه السَّلامُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمَوتِهم، وأنَّهُم قَدْ لَقُوا رَبَّهُم، فَرَضيَ عنهم وأرْضاهُم، قال: فَكُنَّا نَقْرَأُ -يعني في القرآنِ الكريمِ-: (أنْ بَلِّغُوا قَومَنا أنْ قَدْ لَقِينا رَبَّنا، فَرَضِيَ عَنَّا وأَرْضانا)، ثم نُسِخَ لَفظُه مِن التِّلاوةِ بعْدَ ذلك، وقد حَزِن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حُزنًا شَديدًا، فظَلَّ يَدْعو على رِعْلٍ وَذَكْوانَ وَبَنِي لَحْيانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ أربعينَ صباحًا في القُنوتِ في صَلاةِ الصُّبحِ، كما في الصَّحيحينِ؛ لأنَّهم عَصَوُا اللهَ تعالَى ورَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وغَدَروا بأصحابِه الكرامِ.
وقدْ ورَدَ عند أبي داودَ، عن ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: «قنَتَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَهرًا مُتتابِعًا، في الظُّهرِ والعَصرِ، والمَغرِبِ والعِشاءِ، وصَلاةِ الصُّبحِ، في دُبُرِ كلِّ صَلاةٍ، إذا قال: سَمِع اللهُ لِمَن حَمِدَه مِن الرَّكعةِ الآخرةِ، يَدْعو على أحياءٍ مِن بَني سُلَيمٍ؛ على رِعْلٍ، وذَكْوانَ، وعُصَيَّةَ، ويُؤَمِّنُ مَن خَلْفَه».
ثمَّ تَرَك الدُّعاءَ عليهم لَمَّا نزَل قولُ اللهِ تعالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، كما ورَدَ في الصَّحيحينِ.
وفي الحديثِ: الدُّعاءُ على الظَّالمينَ والغادِرين ومَن يُؤذِي المُسلِمينَ.
وفيه: أنَّ الطَّاعةَ التامَّةَ للهِ تعالَى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَببٌ في النَّجاةِ عندَ اللهِ سُبحانَه والفوزِ برِضوانِه.
وفيه: القُنوتُ في النَّوازِلِ والمُلِمَّاتِ.
وفيه: حِرصُ الصَّحابةِ على الشَّهادةِ، وفَرَحُهم لنَيلِها.
وفيه: دَليلٌ على أنَّ أهلَ الحَقِّ قد يَنالُ منهم المُبطِلون، ولا يكونُ ذلك دالًّا على فَسادِ ما عليه أهلُ الحَقِّ، بلْ كَرامةً لهم، وشَقاءً لأهلِ الباطِلِ..