حذَّرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه مِنَ الإكثارِ مِنَ الدُّنيا، وأخبَرَ أنَّ المكثِرينَ مِنَ المالِ في الدُّنيا هم أقلُّ النَّاسِ نصيبًا مِنَ الحَسناتِ يومَ القِيامةِ، إلَّا مَن قامَ بأداءِ حقِّ المالِ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أزهَدَ النَّاسِ في الدُّنيا ومتاعِها.وفي هذا الحَديثِ يَحكي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه جاءَ مالُ البَحْرَينِ مِنَ الخَراجِ المفروضِ على مَجوسِ هَجَرَ، وهي بلدةٌ مِن بلادِ البَحرينِ، وكان قد قَدِم به أبو عُبَيْدةَ بنُ الجَرَّاحِ رَضيَ اللهُ عنه، وكان بَعَثَه العلاءُ بنُ الحَضْرميِّ مِن البَحرَينِ، وكان ثمانين ألْفَ دِرهمٍ. والبَحرينُ كانتْ في القَديمِ تُطلقُ على ما يَشملُ حاليًّا كلًّا مِن: البَحرينِ، والأحساءِ والقَطيف شَرْقِ المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّةِ.فأمَر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه أن يَنثُروهُ في المسجدِ، وكان هذا المالُ أكثرَ مالٍ أُتِيَ به إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وخرَج النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الصَّلاةِ دُونَ أنْ يلتفتَ أو يَنظُرَ إليه؛ إشارةً منه وبيانًا لأصحابِه رَضيَ اللهُ عنهم أنَّ المالَ لا يُهتَمُّ له، ولا يَشغَلُ عن الصَّلاةِ والدِّينِ، فلمَّا قَضى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صلاتَه جَلَس، وما كان يَرى أحدًا إلَّا أعطاه مِن هذا المالِ، فجاءَ العبَّاسُ بنُ عبدِ المطَّلبِ رَضيَ اللهُ عنه عمُّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال له: أَعْطني؛ فإنِّي فادَيتُ نفْسِي وفاديتُ عَقِيلًا، يَقصِدُ أنَّه دَفَع الفِديةَ لِنفْسِه ولِعَقيلِ بنِ أبي طالبٍ عندَما كانوا أَسْرى يومَ بدرٍ، قيل: إنَّه دفَع فِديةً ثمانين أُوقيَّةَ ذهَبٍ، وقيل: ألْفَ دينارٍ، يُريدُ بذلك أن يُعوِّضَه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا فَقَدَه مِن مالٍ.فقالَ له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «خُذْ»، فاغترَف العبَّاسُ رَضيَ الله عنه بيَدَيْه دُونَ حدٍّ، ووضَعَ مِنَ المالِ في ثَوبِه، ثُمَّ ذَهَب يَرفَعُه فلمْ يَستطِعْ، فطَلَب مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يأمُرَ أحدَ الحاضِرينَ أن يَرفَعْه عليه حتَّى يَستطيعَ حمْلَه، فرَفَض النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يأمُرَ أحدًا بذلك، فطَلَب العبَّاسُ رَضيَ اللهُ عنه مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَرفَعَه هو عليه، فرَفَض النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فرَمى منه العبَّاسُ رَضيَ اللهُ عنه جُزءًا؛ حتَّى يَستطيعَ حمْلَه، ثُمَّ حاوَلَ حمْلَه فلم يستطِعْ، فطلَبَ مِنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يأمُرَ أحدًا بحملِه عليه، فرَفَض، ورفَضَ أيضًا أنْ يحملَه هو عليه، فوضَعَ منه العبَّاسُ رَضيَ اللهُ عنه جُزءًا آخَرَ، ثُمَّ حملَه على كاهلِه، والكاهلُ ما بيْنَ الكَتِفَينِ، ثُمَّ انصرفَ، فما زالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُتبِعُه بصَرَه حتَّى ذهَب وانصَرَف مِن أمامِ عَينِه، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُتبِعُه ببصَرِه؛ تعجُّبًا مِن حِرْصِه على المالِ، وإنَّما لم يأمُرْ برفعِ المالِ على عُنقِ العبَّاسِ رَضيَ اللهُ عنه -واللهُ أعلمُ-؛ لِيَزجُرَه ذلك عن الاستِكثارِ في المالِ الذى ظهَرَ منه، وألَّا يأخُذَ مِنَ الدُّنيا فوقَ حاجتِه، ويَقتصِرَ على ما يُبلِّغُ منها المحلَّ، كما كان يَفعلُه عليه السَّلامُ.فما قامَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى وزَّعَ جَميعَ الأموالِ، ولم يَبْقَ منها دِرهمٌ، وكان ذلك مِن عادةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحديثِ: دَليلٌ على أنَّ مالَ الفَيءِ ممَّا يُعطَى منه الغنيُّ والفقيرُ.
وفيه: بيانُ احتِقارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للدُّنيا وإنْ كثُرَتْ.
وفيه: التعجُّبُ مِن حِرصِ الحَريصِ على المالِ، والمُستكثِرِ منه.
وفيه: مَشروعيَّةُ قِسمةِ مالِ الفَيءِ في المسجِدِ، ووضْعِه فيه.