‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1314

مسند احمد

‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1314

حدثنا يونس، حدثنا شيبان، عن قتادة، قال: وحدث أنس بن مالك، أن قائلا من الناس قال: يا نبي الله، أما يريد المدينة؟ قال: " بلى إنه ليعمد إليها، فيجد الملائكة بنقابها وأبوابها، يحرسونها من الدجال "

خُروجُ الدَّجَّالِ الكَذَّابِ آخِرَ الزَّمانِ أعظَمُ فِتْنةٍ ستَمُرُّ على البَشَريَّةِ؛ فمَن أدْرَكَها ثمَّ حُفِظَ منها، فهو المُوَفَّقُ مِن اللهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وقد حَذَّرَنا منه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأمَرَنا بالتَّمسُّكِ بالعَقيدةِ الصَّحيحةِ والإيمانِ باللهِ كما يُبيِّنُ هذا الحَديثُ، حيثُ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "يا أيُّها النَّاسُ"، وهذا نداءٌ لاسْتِرْعاءِ انتِباهِ النَّاسِ لِيُصْغوا جيِّدًا لِمَا سيُقالُ لهم، "إنَّها لم تكُنْ فِتْنةٌ"، والفِتْنةُ هَرْجٌ وشَرٌّ يُنشَرُ بيْنَ النَّاسِ، ويَقَعُ فيه قَتْلٌ وقَلْبٌ لِحَقائِقِ الإيمانِ "على وَجهِ الأرْضِ مُنذُ ذَرَأَ اللهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ أعظَمُ"، أي: أشَدُّ وأخطَرُ "مِن فِتْنةِ الدَّجَّالِ"، أي: المَسيحُ الدَّجَّالُ، مَأْخوذٌ مِن الدَّجَلِ وهو الكَذِبُ، والدَّجَّالُ: شَخْصٌ بِعَيْنِه يَبتَلِي اللهُ به عِبادَهُ، ويُقدِرُهُ على أشياءَ مِن مَقدُوراتِ اللهِ تَعالى: مِن إحياءِ الميِّتِ الذي يَقتُلُهُ، وظُهورِ زَهرَةِ الدُّنيا والخِصْبِ معه، وغَيرِ ذلك فِتْنةً للنَّاسِ وامتِحانًا. قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يَبعَثْ نَبيًّا إلَّا حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ"؛ لِخَطَرِهِ وشَرِّهِ؛ حتى يَكونوا على حَذَرٍ منه إنْ ظَهَرَ فيهم، "وأنا آخِرُ الأنبياءِ، وأنتُمْ آخِرُ الأُمَمِ، وهو خارِجٌ فيكم لا مَحالةَ"، وهذا من نافِلِ القَولِ؛ لِزيادةِ تَحْذيرِهِم من الدَّجَّالِ؛ لأنَّه أصبَحَ من المُؤكَّدِ أنَّه سيَخرُجُ فيهم؛ لأنَّ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ آخِرُ الأنبياءِ وأُمَّتَهُ آخِرُ أُمَمِ الأنبياءِ، "فإنْ يَخرُجْ وأنا بيْنَ أظْهُرِكُم"، أي: وأنا حيٌّ ومَوْجودٌ بيْنَكم، "فأنا حَجيجٌ لكُلِّ مُسلِمٍ"، أكونُ أنا الخَصْمَ الَّذي يُحَاجِجُ الدَّجَّالَ، ويُقِيمُ عليه الحُجَّةَ نِيابةً عن كُلِّ مُسلِمٍ، "وإنْ يَخرُجْ مِن بَعدِي، فكُلٌّ حَجيجُ نَفسِهِ"، أي: فكُلُّ امْرِئٍ يُحَاجُّهُ ويُحَاوِرُهُ ويُغَالِبُهُ لِنَفْسِهِ، "واللهُ خَليفَتي على كُلِّ مُسلِمٍ"، فاللهُ وَلِيُّ كُلِّ مُسلِمٍ وحَافِظُهُ، فيُعِينُهُ عليه ويَدْفَعُ شَرَّهُ. ثُمَّ بيَّنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مكانَ خُروجِه فقالَ: "وإنَّه يَخرُجُ من خَلَّةٍ بيْنَ الشَّامِ والعِراقِ"، وهِيَ الطَّريقُ بيْنَ هاتَينِ الجِهتَينِ، والخَلَّةُ: مَوْضِعُ صُخُورٍ، "فيَعيثُ يَمينًا وشِمالًا"، يعني: يُسرِعُ ويَشتَدُّ في الفَسَادِ في كُلِّ الجِهاتِ والنَّواحي، "يا عبادَ اللهِ! أيُّها النَّاسُ! فاثْبُتوا"، أي: تَمسَّكُوا بالحقِّ واثْبُتوا عليه؛ "فإنِّي سأصِفُهُ لكم صِفةً لم يَصِفْها إيَّاهُ قَبْلي نَبيٌّ"، أي: سأصِفُهُ لكم صِفةً جامِعةً تَعْرِفونَهُ بها، ولا يَخْفَى عليكم فاسْتَمِعوها واحْفَظوها عنِّي، "يقولُ"، أي الدَّجَّالُ: "أنا ربُّكُم. ولا تَرَونَ ربَّكُم حتَّى تَموتوا"، أي: من عَلاماتِ كَذِبِ الدَّجَّالِ أنَّه يَدَّعي ويَزعُمُ أنَّه رَبُّ النَّاسِ، ولكِنَّ الحَقيقةَ أنَّ اللهَ ربَّ العالَمينَ لا يَراهُ أحَدٌ من المُؤمِنينَ إلَّا بعدَ المَوتِ، وأنَّه لا يَتجسَّدُ في صُوَرِ الدَّجَّالِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَكْلَ الدَّجَّالِ، "وإنَّه أعوَرُ"، أي: عَيْنُهُ مَطْموسةٌ لا تَرى "وإنَّ ربَّكُم ليس بأعوَرَ"، والمَعْنى أنَّ اللهَ الحقَّ كامِلُ الأوْصافِ، وليس به صِفةُ نَقصٍ، وليس على صِفةِ الدَّجَّال الأعوَرِ، بل له عَينانِ تَليقانِ به سُبحانَه، ليسَ كمِثلِه شَيءٌ، "وإنَّه مَكْتوبٌ بيْنَ عَينَيهِ: كافِرٌ"، أي: مَكْتوبٌ على جَبهَتِهِ بحُروفٍ ظاهِرةٍ كَلِمةُ كافِرٍ أو (كفر)، "يَقرَؤُهُ كُلُّ مُؤمِنٍ"، أي: يَراهُ كُلُّ مَن ثبَتَ على إيمانِهِ، ويَقرَأُ المَكْتوبَ بيْنَ عَيْنَيِ الدَّجَّالِ، يَقدِرُ على قِراءَتِهِ المُؤمِنُ، وهي كِتابةٌ حقيقةً جَعَلَها اللهُ آيةً وعَلامةً من جُملةِ العَلاماتِ القاطِعةِ بكُفرِهِ وكَذِبِهِ، يُظهِرُها اللهُ تَعالى لكُلِّ مُسلِمٍ ويُخْفيها عمَّن أرادَ شَقاوَتَهُ وفِتْنَتَهُ، "كاتِبٌ أو غَيرُ كاتِبٍ"، أي: سواءً منهم مَن كان يَعرِفُ القِراءةَ والكِتابةَ قَبلَ ذلك أوْ لا يَعرِفُ، فإنَّ اللهَ سيُلهِمُهُ المعرفةَ والقِراءةَ، وهذا مِن تَثْبيتِ اللهِ للمُؤمِنينَ في هذه الفِتْنةِ. قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وإنَّ مِن فِتْنَتِهِ أنَّ معه جَنَّةً ونارًا" وهذا فيما يَراهُ النَّاسُ، "فنارُهُ جَنَّةٌ، وجَنَّتُهُ نارٌ"، وهذا عَكسُ ما يَراهُ النَّاسُ، ولكِنَّ المُؤمِنَ الحقَّ يَعلَمُ حَقيقةَ قَلبِ الأُمورِ مع الدَّجَّالِ، "فمَنِ ابتُلِيَ بنَارِهِ فلْيَستَغِثْ باللهِ"، أي: يَطلُبُ الغَوثَ والعَونَ من اللهِ؛ لِيُقوِّيَهُ على هذه الفِتْنةِ، "ولْيَقرَأْ فَواتِحَ الكَهْفِ"، أي: يَقرَأُ أوائِلَ سُورةِ الكَهفِ؛ فإنَّها تَعصِمُهُ من الدَّجَّالِ، وفي صَحيحِ مُسلِمٍ: "مَن حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ من أوَّلِ سُورةِ الكَهْفِ عُصِمَ من الدَّجَّالِ"، وفي لَفظٍ: "مِن آخِرِ الكَهْفِ"، ورواياتٌ أُخرى فيها أنَّ السُّورةَ كُلَّها تَقي من الدَّجَّالِ، وعلى هذا يَجتَمِعُ روايةُ مَن رَوى أوَّلَ سُورةِ الكَهفِ مع مَن رَوى مِن آخِرِها. "وإنَّ مِن فِتنَتِهِ أنْ يقولَ للأعْرابيِّ"، وهو من سُكَّانِ البَوادي والصَّحاري، ولعلَّ اختيارَ الأعْرابيِّ؛ لأنَّه يكونُ عادةً أقَلَّ مَعرفةً بالدِّينِ، فيكونُ أكثَرَ انخِداعًا وأشَدَّ فِتْنةً لِعَدَمِ عِلمِهِ، فيقولُ له: "أرأيتَ إنْ بَعَثتُ لكَ أباكَ وأُمَّكَ! أتشهَدُ أنِّي ربُّك؟ فيقولُ: نَعَمْ، فيَتمثَّلُ له شَيْطانانِ في صُورةِ أبيهِ وأُمِّهِ"، وهذا من فِتْنةِ الشَّياطينِ ومُساعَدَتِهِم في إضْلالِ النَّاسِ، "فيَقولانِ: يا بُنَيَّ، اتَّبِعْهُ؛ فإنَّه ربُّكَ"، وهذا كَذِبٌ وسِحرٌ ودَجَلٌ من الشَّياطينِ. "وإنَّ مِن فِتنَتِهِ أنْ يُسلَّطَ على نَفسٍ واحِدةٍ فيَقتُلَها، يَنشُرُها بالمِنْشارِ"، أي: يَقطَعُها بالمِنْشارِ، "حتَّى تُلْقى شِقَّينِ"، أي: نِصفَينِ كُلُّ نِصفٍ في جانبٍ، "ثُمَّ يقولُ: انْظُروا إلى عَبدي هذا، فإنِّي أبعَثُهُ ثُمَّ يَزعُمُ أنَّ له ربًّا غَيري، فيَبعَثُهُ اللهُ"، يعني: يُحْييه اللهُ الحقُّ بقُدرَتِهِ ولا يُحْييهِ الدَّجَّالُ، وهذا من إضْلالِ الدَّجَّالِ، ومن الزِّيادةِ في فِتنَتِهِ؛ لِيَميزَ اللهُ الخَبيثَ من الطَّيِّبِ، ومَن يُؤمِنُ باللهِ الحقِّ، ومَن يُؤمِنُ بالدَّجَّالِ الكَذَّابِ بعدَ أنْ جاءَتْهُ البيِّناتُ، "ويقولُ له الخَبيثُ"، أي: يقولُ الدَّجَّالُ للشَّخصِ الَّذي أحْياهُ اللهُ: "مَن ربُّك؟ فيقولُ: ربِّيَ اللهُ، وأنتَ عَدُوُّ اللهِ، أنتَ الدَّجَّالُ! واللهِ ما كُنتُ قَطُّ أشَدَّ بَصيرةً بكَ مِنِّي اليَومَ"! وهذا المُؤمِنُ أحْياهُ اللهُ الحقُّ وثَبَّتَهُ وعَصَمَهُ من فِتْنةِ الدَّجَّالِ؛ لِيكونَ شاهِدًا على كَذِبِ هذا الخَبيثِ؛ ولِيَعلَمَ النَّاسُ أنَّه كاذِبٌ، ويُحاوِلُ الدَّجَّالُ قَتْلَ هذا المُؤمِنِ ولكِنَّه لا يَستطيعُ كما أنَّه لا يَستطيعُ أنْ يُحيِيَ أحَدًا ميِّتًا غَيرَهُ مرَّةً أُخرى. "وإنَّ مِن فِتنَتِهِ أنْ يَأمُرَ السَّماءَ أنْ تُمطِرَ، فتُمطِرَ، ويَأمُرَ الأرضَ أنْ تُنبِتَ فتُنبِتَ"، وهذا كُلُّه يَحدُثُ بأمْرِ اللهِ الإلهِ الحقِّ. "وإنَّ من فِتنَتِهِ أنْ يمُرَّ بالحيِّ فيُكذِّبونَهُ"، أي: لا يُؤمِنونَ به، "فلا يَبْقى لهم سائِمةٌ إلَّا هَلَكَتْ"، أي: يُعاقِبُهُم؛ فيُميتُ مَواشِيَهم وحَيَواناتِهِم التي يَنتَفِعونَ بها. "وإنَّ مِن فِتنَتِهِ أنْ يمُرَّ بالحيِّ، فيُصدِّقونَهُ"، أي: يُؤمِنون به، فيَأمُرَ السَّماءَ أنْ تُمطِرَ فتُمطِرَ، ويَأمُرَ الأرْضَ أنْ تُنبِتَ فتُنبِتَ، حتى تروحَ مَواشيهم مِن يَومِهِم ذلك أسْمَنَ ما كانتْ، وأعظَمَهُ، وأمَدَّهُ خَواصِرَ"، أي: مُمتلِئةُ البُطونِ، "وأدَرَّهُ ضُروعًا"، أي: أكثَرَ امتِلاءً باللَّبَنِ، وأكثَرَ حَلْبًا، والضَّرْعُ مِن الحَيَوانِ بِمَنزِلةِ الثَّدْيِ مِنَ المرأةِ. ثُم يُخبِرُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن انتشارِ فِتنتِه في الأرضِ فيقولُ: "وإنَّه لا يَبْقى شَيءٌ من الأرْضِ إلَّا وَطِئَهُ وظَهَرَ عليه"، أي: إنَّه يَدورُ ويَطوفُ في كُلِّ أنْحاءِ الأرْضِ ويَدخُلُها "إلَّا مكَّةَ والمدينةَ" وهُما حَرَمَا اللهِ ورَسولِهِ، "لا يَأتيهما من نَقْبٍ من أنْقابِهِما"، والنَّقْبُ النَّاحيةُ والجِهةُ، والمُرادُ: أنَّه لا يُريدُ دُخولَهم من أيِّ جِهةٍ؛ "إلَّا لَقِيَتْهُ الملائِكةُ بالسُّيوفِ صَلْتةً"، أي: شاهِرةً سُيوفَها دِفاعًا وحِمايةً للحَرَمينِ، "حتى يَنزِلَ عِندَ الظُّرَيبِ الأحْمرِ" هو الكَومُ من الرَّمْلِ، "عِندَ مُنقَطَعِ السَّبَخةِ"، وفي روايةٍ عِندَ البُخاريِّ عِندَ "سَبَخةِ الجُرفِ"، وهو مَكانٌ بطَريقِ المدينةِ من جِهةِ الشَّامِ على بُعدِ مِيلٍ، وقيلَ: على ثَلاثةِ أمْيالٍ، والسَّبَخةُ هي الأرْضُ التي تَعْلوها المُلوحةُ، ولا تَكادُ تُنبِتُ إلَّا بعضَ الشَّجَرِ، "فتَرجُفُ المدينةُ بأهْلِها ثَلاثَ رَجَفاتٍ"، أي: تَهتَزُّ وتَتحرَّكُ المدينةُ ويَضطرِبُ أهْلُها ثَلاثَ مرَّاتٍ، وقيلَ: المُرادُ بالرَّجْفةِ الأرْفاقُ، وهو إشاعةُ مَجيئِهِ، وأنَّه لا طاقةَ لأحَدٍ به، فيُسارِعُ حينئذٍ إليه مَن كان يتَّصِفُ بالنِّفاقِ أو الفِسْقِ فيَظهَرُ حينئذٍ تمامُ أنَّها تَنْفي خَبَثَها، "فلا يَبْقى فيها مُنافِقٌ ولا مُنافِقةٌ إلَّا خرَجَ إليه"، أي: يَتَّبِعونَهُ، "فتَنْفي الخَبيثَ منها، كما يَنْفي الكِيرُ خَبَثَ الحَديدِ"، أي: تَتطهَّرُ المدينةُ من مُنافِقيها وفُسَّاقِها الذين هُمْ خَبَثٌ ودَنَسٌ، "ويُدْعَى ذلك اليَومُ يَومَ الخَلاصِ"، أي: يومَ تَتخلَّصُ فيه المدينةُ من أدْناسِ مَن كانوا فيها. فعِندَ ذلك سُئِلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "قيلَ: فأينَ العَرَبُ يَومئذٍ؟ قال: هُم يَومئذٍ قَليلٌ"، وفي روايةٍ: "وَجُلُّهُمْ بِبَيْتِ المَقْدِسِ"، أي: أكثَرُ منَ بَقِيَ من العَرَبِ يكونُ عِندَ بَيتِ المَقْدِسِ، "وإمامُهُم رَجُلٌ صالِحٌ"، وهو المَهْديُّ، واسْمُهُ مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ على اسْمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فبيْنَما إمامُهُم قد تقدَّمَ يُصَلِّي بهم الصُّبحَ، إذْ نَزَلَ عليهم عيسى ابنُ مَريَمَ الصُّبحَ، فرجَعَ ذلك الإمامُ يَنكُصُ يَمْشي القَهْقَرَى"، أي: يَرجِعُ عن مَوقِفِ الإمامةِ في الصَّلاةِ؛ "لِيتقدَّمَ عيسى، فيضَعُ عيسى يَدَهُ بيْنَ كَتِفَيهِ" تَقْديرًا له، ولِمَكانَتِهِ، ورِفْقًا به، "ثُمَّ يقولُ له: تقدَّمْ فصَلِّ"، وهذا من تَكرِمةِ اللهِ لهذه الأُمَّةِ أنَّ إمامَهُم يكونُ منهم؛ "فإنَّها لك أُقيمَتْ"، أي: أُقيمَتِ الصَّلاةُ وأنتَ إمامٌ للنَّاسِ؛ فأكْمِلْ إمامَتَكَ، "فيُصَلِّي بهم إمامُهُم، فإذا انصَرَفَ" من الصَّلاةِ قال عيسى عليه السَّلامُ: "افْتَحوا البابَ"، وهو البابُ الَّذي يَتحصَّنونَ خَلْفَهُ "فيَفتَحونَ ووراءَهُ الدَّجَّالُ، معه سَبْعونَ أَلْفَ يَهوديٍّ، كُلُّهم ذو سَيفٍ مُحلًّى وَساجٍ"، أي: إنَّهم مُسلَّحونَ بالسُّيوفِ وآلةِ الحَربِ، والسَّاجُ هو الطَّيْلَسانُ، وهوَ الثَّوبُ الَّذي به خُطوطٌ، وكِساءٌ يُوضَعُ على الكتِفِ، أو يُحِيطُ بالبَدنِ، ويُعرَفُ بالشَّالِ؛ قيلَ: المُرادُ بالطَّيْلَسانِ هُنا هو الطَّيْلَسانُ الأخْضَرُ المُقوَّرُ، أي: المُدوَّرُ، وهو لِباسُ اليَهودِ قَديمًا والعَجَمِ أيضًا، وهو على شَكْلِ الطَّرحةِ؛ يُرسَلُ مِن وراءِ الظَّهرِ والجانِبَينِ؛ قيلَ: وهو من شِعارِ اليَهودِ، وهو غَيرُ الطَّيْلَسانُ المُربَّعُ الذي يُدارُ من تحتِ الحَنَكِ، ويُغطِّي الرَّأسَ وأكثَرَ الوَجْهِ، ويُجعَلُ طَرَفاهُ على الكَتِفَينِ. فإذا نظَرَ الدَّجَّالُ إلى عِيسى عليه السَّلامُ "ذابَ كما يَذوبُ المِلحُ في الماءِ"؛ وذلك من شِدَّةِ خَوفِهِ من عيسى ابنِ مَريَمَ؛ لأنَّه يَعلَمُ أنَّ هَلاكَهُ على يَدَيهِ، "ويَنطَلِقُ هارِبًا، فيُدرِكُهُ عِندَ بابِ لُدٍّ الشَّرقيِّ" ولُدٌّ: مَوضِعٌ بالشَّامِ، وقيلَ: بفِلَسطِينَ، "فيَقتُلُهُ، فيَهزِمُ اللهُ اليَهودَ" خِزْيًا لهم على كُفرِهِم واتِّباعِهِم الدَّجَّالَ، "فلا يَبْقى شَيءٌ ممَّا خَلَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ يَتَواقى به يَهوديٌّ"، أي: يَحْتَمي به ويَخْتَفي خَلْفَهُ، "إلَّا أنطَقَ اللهُ ذَلِكَ الشَّيءَ"، فيُخبِرُ باخْتِباءِ يَهوديٍّ خَلْفَهُ، وكذلك "لا حَجَرَ، ولا شَجَرَ، ولا حائِطَ، ولا دابَّةَ، إلَّا الغَرْقَدةُ" هو ضَربٌ من شَجَرِ العِضاهِ، وشَجَرِ الشَّوكِ، "فإنَّها من شَجَرِهِم لا تَنطِقُ، إلَّا قال: يا عبدَ اللهِ المُسلِمُ، هذا يَهوديٌّ، فتَعالَ اقْتُلْهُ"، وهذه مُعجِزةٌ من اللهِ تدُلُّ على قُدرَتِهِ، وأنَّه هو الإلَهُ الحقُّ ويَشهَدُ كُلُّ شَيءٍ بقُدرَتِهِ ووَحْدانيَّتِهِ، ويَشهَدُ أنَّ الدَّجَّالَ كَذَّابٌ، "فيكونُ عيسى ابنُ مَريَمَ في أُمَّتي حَكَمًا"، أي: حاكِمًا بيْنَ النَّاسِ، "عَدْلًا، وإمامًا مُقسِطًا"، أي: عادِلًا في الحُكمِ، "يَدُقُّ الصَّليبَ"، أي: يَكسِرُهُ بحيثُ لا يَبْقى من جِنسِ الصَّليبِ شَيءٌ، "ويَذبَحُ الخِنْزيرَ"، يعني: يُحرِّمُ أكْلَهُ أو يَقتُلُهُ بحيثُ لا يُوجَدُ في الأرضِ ليأكُلَهُ أحَدٌ، والحاصِلُ: أنَّه يُبطِلُ دِينَ النَّصارى الذي حرَّفوهُ مِن بَعدِهِ، "ويضَعُ الجِزْيةَ"، أي: لا يَقبَلُها من أحَدٍ من الكَفَرةِ بل يَدْعوهُمْ إلى الإسلامِ. وقيلَ: يُقرِّرُها ويَضرِبُها على جَميعِ الكُفَّارِ، ويَنْقادُ جَميعُ النَّاسِ له؛ إمَّا بالإسْلامِ؛ وإمَّا بإلْقاءِ اليَدِ. وقيلَ: مَعْناهُ يُوقِفُ الجِزْيةَ إذ يَصيرُ الدِّينُ واحِدًا، فلا يَبْقى أحَدٌ من أهْلِ الذِّمَّةِ يُؤدِّي الجِزْيةَ. وقيلَ: يَترُكُ الجِزْيةَ مع وُجودِ أهْلِ الذِّمَّةِ، استِغْناءً عنها لِكَثْرةِ المالِ، وعَدَمِ وُجودِ مَن يُمكِنُ صَرفُها له، "ويَترُكُ الصَّدَقةَ" يعني: يَترُكُ الَّزكاةَ لِكَثْرةِ الأمْوالِ؛ "فلا يَسْعى على شاةٍ ولا بَعيرٍ"، وذلك بأنْ يَترُكَ زَكاتَها، فلا يكونُ لها ساعٍ يَطلُبُ زَكاتَها؛ إذ لا يُوجَدُ مَن يَقبَلُها. ثُم يُخبِرُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما يَحصُلُ في الأرضِ بعد هلاك الدَّجَّالِ مِن خَيرٍ ووُدٍّ وتآلُفٍ حتى بين الناسِ وبينَ الحيواناتِ المفترِسةِ، ومِن السِّلمِ والأمْنِ والطُّمأنينةِ وغير ذلك، فيقول: "وتُرفَعُ الشَّحْناءُ والتَّباغُضُ"، أي: تَذهَبُ من صُدورِ النَّاسِ، فقد ظَهَرَ الحقُّ وعَلِموا أنَّ الدُّنيا لا تُساوي شيئًا على وَجهِ الحَقيقةِ بعدَ أنْ رَأوُا الآياتِ، وعَلِموا الحقَّ واليَقينَ، وانشَغَلوا بأُمورِ السَّاعةِ، "وتُنزَعُ حُمةُ كُلِّ ذاتِ حُمةٍ" والحُمةُ هي السُّمُّ، ويُطلَقُ على إبْرةِ العَقْربِ للمُجاوَرةِ؛ لأنَّ السُّمَّ منها يَخرُجُ، "حتى يُدخِلَ الوليدُ يَدَهُ في فِي الحَيَّةِ"، أي: حتى يُدخِلَ الطِّفلُ الصَّغيرُ يَدَهُ في فَمِ الحَيَّةِ "فلا تَضُرُّهُ" بسُمٍّ أو غَيرِهِ؛ لأنَّ سُمَّها قد ارتَفَعَ وانعَدَمَ، "وتضُرَّ الوليدةُ الأسَدَ فلا يضُرُّها"، وفي روايةٍ: "وَتُفِرَّ الوَليدةُ الأسَدَ، فلا يَضُرُّها"، أي: تُؤْذي الطِّفلةُ الصَّغيرةُ الأسَدَ أو تَضطَرُّهُ للفَرارِ ولا يُؤْذيها، "ويكونَ الذِّئبُ في الغَنَمِ كأنَّه كَلْبُها" يَحرُسُها، ولا يَأكُلُها، وكُلُّ ذَلِكَ من قُدْرةِ اللهِ الحقِّ الذي أذهَبَ كُلَّ ضَغينةٍ من الصُّدورِ، وكُلَّ غِلٍّ حتى من الحَيَوانِ، "وتُملَأُ الأرضُ من السِّلمِ كما يُملَأُ الإناءُ من الماءِ"، أي: يعُمُّ السِّلمُ والأمْنُ الأرْضَ، "وتكونُ الكَلِمةُ واحِدةً" مُجتَمِعةً غَيرَ مُتفرِّقةٍ. وقد جاءَ عِندَ أحمَدَ، عن أبي هُرَيْرةَ: "وتكونُ الدَّعْوى واحِدةً"، وهي دَعْوةُ الإسْلامِ والتَّوحيدِ؛ "فلا يُعبَدُ إلَّا اللهُ" ولا يُشرِكُ به أحَدٌ، "وتضَعُ الحَربُ أوْزارَها" فتَنتَهي وتَخمُدُ نارُها، "وتُسلَبُ قُرَيشٌ مُلكَها"، فيكونُ المُلْكُ بيَدِ عيسى ابنِ مَريَمَ عليه السَّلامُ. "وتكونُ الأرضُ كفاثورِ الفِضَّةِ"، الفاثورُ الخِوانُ والمائِدةُ، وقيلَ: هو طَستٌ أو إناءٌ من فِضَّةٍ، "تُنبِتُ نَباتَها بعَهدِ آدَمَ"، أي: يَعودُ الثَّمَرُ والنَّباتُ مِثلَ ما كان عليه من عَهدِ آدَمَ عليه السَّلامُ من الكَثْرةِ والكِبَرِ والبَرَكةِ، "حتى يَجتَمِعَ النَّفَرُ على القِطْفِ"، وهو اسْمٌ لكُلِّ ما يُقطَفُ، والمُرادُ به هُنا: العُنقودُ، "من العِنَبِ فيُشبِعَهُم، ويَجتَمِعَ النَّفَرُ على الرُّمَّانةِ فتُشبِعَهُم" لِعِظَمِ حَجْمِها وكَثْرةِ خَيرِها، "ويكونَ الثَّورُ بكذا وكذا وكذا من المالِ، ويكونَ الفَرَسُ بالدُّرَيهِماتِ"، أي: يكونُ رَخيصَ الثَّمَنِ؛ لِكَثْرةِ نَوعِهِ أو لِقِلَّةِ الحاجةِ إليه، فلا حَرْبَ بعدَ ذَلِكَ. قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وإنَّ قَبلَ خُروجِ الدَّجَّالِ ثَلاثَ سَنَواتٍ شِدادٍ"، فيها القَحْطُ والفَقْرُ، "يُصيبُ النَّاسَ فيها جُوعٌ شَديدٌ، يَأمُرُ اللهُ السَّماءَ السَّنةَ الأُولى أنْ تَحبِسَ ثُلُثَ مَطَرِها، ويَأمُرُ الأرْضَ أنْ تَحبِسَ ثُلُثَ نَباتِها، ثُمَّ يَأمُرُ السَّماءَ في السَّنةِ الثَّانيةِ فتَحبِسُ ثُلُثَيْ مَطَرِها، ويَأمُرُ الأرضَ فتَحبِسُ ثُلُثَيْ نَباتِها، ثُمَّ يَأمُرُ السَّماءَ في السَّنةِ الثَّالثةِ فتَحبِسُ مَطَرَها كُلَّهُ، فلا تَقطُرُ قَطْرةً، ويَأمُرُ الأرضَ فتَحبِسُ نَباتَها كُلَّهُ، فلا تُنبِتُ خَضْراءَ، فلا يَبْقى ذاتُ ظِلْفٍ إلَّا هَلَكَتْ إلَّا ما شاءَ اللهُ"، أي: تَهلِكُ الحَيَواناتُ كُلُّها، والظِّلفُ بمَنزِلةِ الحافِرِ للفَرَسِ، "قيلَ: فما يُعيشُ النَّاسَ في ذَلِكَ الزَّمانِ؟" يَعني: على أيِّ شَيءٍ يَعيشونَ من الطَّعامِ والشَّرابِ؟ "قال: التَّهْليلُ"، وهو قَولُ: لا إلَهَ إلَّا اللهُ، "والتَّكْبيرُ"، وهو قَولُ: اللهُ أكبَرُ، "والتَّحْميدُ"، وهو قَولُ: الحَمدُ للهِ، وهذا هو الذِّكرُ، وهو الباقياتُ الصَّالِحاتُ، "ويُجزِئُ ذلك عليهم مَجزَأةَ الطَّعامِ"، أي: يَقومُ ذلك مَقامَ الطَّعامِ ويُغْني عنه، وفي رِوايةِ ابنِ ماجَهْ: "ويُجْرَى ذلك عليهم مَجْرَى الطَّعامِ" وهو المعنى نفْسُه، وهذا مِن فَضْلِ اللهِ على عِبادِهِ المُؤمِنينَ حيثُ يُلهِمُهُم أنْ يَذكُروهُ ويُغنيَهُم به عن الطَّعامِ والشَّرابِ، كما أنَّه دَليلٌ على قُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ. والحِكْمةُ في نُزولِ عيسى عليه السَّلامُ دُونَ غَيرِهِ من الأنبياءِ؛ قيل: هي الرَّدُّ على اليَهودِ في زَعْمِهِم أنَّهم قَتَلوهُ؛ فبيَّنَ اللهُ تَعالى كَذِبَهُم، وأنَّه هو الَّذي يَقتُلُهُم، أو نُزولُهُ لِدُنُوِّ أَجَلِهِ، لِيُدفَنَ في الأرضِ؛ إذ ليس لِمَخْلوقٍ من التُّرابِ أنْ يموتَ في غَيرِها.

وفي الحديثِ: التَّحْذيرُ مِن فِتْنةِ الدَّجَّالِ، والحثُّ على الاستِعْدادِ لها؛ لأنَّها أخطرُ فِتنةِ على وجْهِ الأرضِ.

 وفيه: بَيانُ شِدَّةِ حِرصِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أُمَّتِهِ، وتَحْذيرِهِم من الفِتَنِ، وبَيانُ ما يُنْجيهم منها.

 وفيه: بَيانُ فَضْلِ سُورةِ الكَهْفِ، وفَضلِ ذِكرِ اللهِ سُبْحانَهُ، وخاصَّةً عِندَ الشَّدائِدِ.

وفيه: مَشْروعيَّةُ تَغْييرِ المُنكَراتِ، وكَسْرِ آلةِ الباطِلِ كالصَّليبِ في حالةِ القُدْرةِ على ذلك. 

وفيه: بَيانُ أنَّ الشَّرائِعَ المُحرَّفةَ من اليَهوديَّةِ والنَّصْرانيَّةِ مَوْضوعةٌ بدَليلِ كَسْرِ عيسى للصَّليبِ، وقَتلِهِ للخِنْزيرِ، وهُما من شِعارِهِما.