مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم213
مسند احمد

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل عليكم رجل ينظر بعين شيطان، أو بعيني شيطان " قال: فدخل رجل أزرق، فقال: يا محمد، علام سببتني - أو شتمتني أو نحو هذا -؟ قال: وجعل يحلف، قال: فنزلت هذه الآية في المجادلة: {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} [المجادلة: 14] والآية الأخرى
لمَّا بَعَثَ اللهُ رَسولَه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لدَعوةِ النَّاسِ لتَوحيدِ اللهِ تعالى كَذَّبه قَومُه وآذَوه أشَدَّ الأذى، ولاقى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ النَّاسِ أصنافًا مِنَ الأذى القَوليِّ والفِعليِّ، ومِن صُوَرِ الإيذاءِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ بَعضَ المُنافِقينَ كانوا يَشتُمونَه، ثُمَّ يَحلِفونَ أنَّهم ما شَتَموه، ولَكِنَّ اللَّهَ تعالى فضَحَهم وبَيَّنَ كَذِبَهم؛ يَقولُ عَبدُ اللَّهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ظِلِّ حُجرةٍ، أي: كان مُستَظِلًّا بظِلِّ حُجرَتِه، كما جاءَ ذلك موضَّحًا في رِوايةٍ أُخرى، وكان مَعَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَفَرٌ مِنَ المُسلِمينَ، كما في الرِّوايةِ الأُخرى، وقد كادَ، أي: قارَبَ الظِّلُّ أن يَتَقَلَّصَ، أي: يَنزَويَ ويَنقَبِضَ ويَذهَبَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه: إنَّه سيَأتيكُم إنسانٌ فيَنظُرُ إليكُم بعَينِ شَيطانٍ، أي: كَأنَّ نَظَرَه إليكُم نَظَرُ شَيطانٍ، أو كِنايةً عن كَونِه شَيطانًا، أوِ المُرادُ أنَّ عَينَه في النَّظَرِ تَتبَعُ أمرَ الشَّيطانِ، فإذا جاءَكُم فلا تُكَلِّموه، أي: لا أحَدَ مِنكُم يُخاطِبُه، فلَم يَلبَثوا، أي: لَم يَطُلِ الوقتُ أن طَلَعَ عليهم رَجُلٌ أزرَقُ. زَرِقَتِ العَينُ، أي: انقَلَبَت وظَهَرَ بَياضُها، وقيلَ: الزُّرقُ: خُضرةُ الحَدَقةِ، أعوَرُ. وهو مَن يَنظُرُ بعَينٍ واحِدةٍ، فلَمَّا رَآه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَعاه. والظَّاهرُ أنَّ هذا الرَّجُلَ مِنَ المُنافِقينَ، ثُمَّ قال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عَلَامَ، أي: لأيِّ شَيءٍ، تَشتُمُني أنتَ وأصحابُك؟! والمَعنى: لماذا تَسُبُّني أنتَ وأصحابُك. فقال الرَّجُلُ: ذَرني آتِك بهم، أي: اترُكني حتَّى أُحضِرَ أصحابي وتَسألَهم. وجاءَ في رِوايةٍ أنَّ الرَّجُلَ أنكَرَ ما نُسِبَ إليه، فانطَلَقَ فدَعاهم، أي: ذَهَبَ وأحضَرَ أصحابَه حتَّى أتَوا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فحَلَفوا ما قالوا وما فعَلوا، أي: حَلَفوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأقسَموا أنَّه لَم يَحصُلْ مِنهم ما نُسِبَ إليهم، واعتَذَروا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ تَكذيبَهم. وفي رِوايةٍ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَما حَلَفوا تَجاوَز عنهم، فأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي: يَحشُرُهم يَومَ القيامةِ عن آخِرِهم فلا يُغادِرُ مِنهم أحَدًا {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي: يَحلِفونَ للهِ عَزَّ وجَلَّ أنَّهم كانوا على الهدى والاستِقامةِ كما كانوا يَحلِفونَ للنَّاسِ في الدُّنيا؛ لأنَّ مَن عاشَ على شَيءٍ ماتَ عليه وبُعِثَ عليه، ويَعتَقِدونَ أنَّ ذلك يَنفعُهم عِندَ اللهِ كما كان يَنفعُهم عِندَ النَّاسِ فيُجْرونَ عليهمُ الأحكامَ الظَّاهرةَ {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي: حَلِفُهم ذلك لرَبِّهم عَزَّ وجَلَّ، ثُمَّ قال تعالى مُنكِرًا عليهم حسبانَهم {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18]. فأكَّدَ الخَبَرَ عنهم بالكَذِبِ.
وفي الحَديثِ بَيانُ ما كان يُلاقيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن شَتمِ النَّاسِ له.
وفيه صَبرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إيذاءِ النَّاسِ له.
وفيه كَذِبُ المُنافِقينَ في ادِّعائِهم أنَّهم لَم يَسُبُّوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه بَيانُ سَبَبِ نُزولِ الآيةِ