باب مدح الآكل الطعام الذي يأكل منه

روينا في " صحيح مسلم " عن جابر رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم، فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا به فجعل يأكل منه ويقول: نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل ".
وفي هذا الحديث يروي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه كان جالسا في بيته فمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه بأن يأتي إليه، فمشى إليه جابر رضي الله عنه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وذهبا معا حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعض حجر زوجاته فدخل، ثم أذن لجابر رضي الله عنه في الدخول، وجاوز الحجاب المرخي على الباب إلى البيت التي تكون فيه المرأة، ولا يلزم من ذلك أنه رآها؛ إذ من الجائز أن تكون سترت نفسها، أو كان ذلك قبل نزول الحجاب، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته عن طعام للغداء، فأجابوا: نعم يوجد طعام، فجيء بثلاثة «أقرصة» جمع قرص، وهو الخبز فوضعن على «نبي»- هكذا بفتح النون وكسر الباء وتشديد الياء- أي: مائدة من خوص، وضبطت هذه اللفظة (بتي) بتاء مشددة، والبت كساء من وبر أو صوف؛ فلعله منديل وضع عليه هذا الطعام، وضبطت (بني) بضم الباء وبالنون، وهو طبق من خوص، فأخذ صلى الله عليه وسلم قرصا فوضعه بين يديه، وأخذ آخر فوضعه بين يدي جابر رضي الله عنه، ثم أخذ الثالث فقسمه نصفين: نصف له، ونصف لجابر رضي الله عنه، ثم سأل صلى الله عليه وسلم: هل من أدم؟ والأدم هو ما يؤكل مع الخبز مما يطيب، كالمرق، والسمن، والعسل، والزيت، وغيرها من المائعات، فقالوا: «لا، إلا شيء من خل» أي: يوجد القليل من الخل، فقال صلى الله عليه وسلم: هاتوه فنعم الأدم ونعم الطعام هو، وهذا مدح للخل بوصفه طعاما وإداما، وقيل: ليس مدحا للخل لذاته، وإنما هو مدح له بحسب الوقت، وهذا ما ينبغي للإنسان إذا قدم له الطعام أن يعرف قدر نعمة الله سبحانه وتعالى بتيسيره، وأن يشكره على ذلك، وألا يعيبه إن كان يشتهيه وطابت به نفسه، فليأكله، وإلا فلا يأكله، ولا يتكلم فيه بقدح أو بعيب، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط، كان إذا اشتهى شيئا أكله، وإن كرهه تركه».
وفي الحديث: فضل الخل.
وفيه: تواضعه صلى الله عليه وسلم.
وفيه: فضل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وفيه: بيان حال المسلمين الأول، وصبرهم على العيش.
وفيه: أن من هديه صلى الله عليه وسلم إذا أعجبه الطعام أثنى عليه.
وفيه: كرم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وإيثاره الضيف عند قلة الطعام؛ فإن الذي قدم إليه كان غداءه صلى الله عليه وسلم.