حديث أبي عبد الرحمن الفهري

مسند احمد

حديث أبي عبد الرحمن الفهري

 حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرني يعلى بن عطاء، عن أبي همام قال: أبو الأسود هو عبد الله بن يسار، عن أبي عبد الرحمن الفهري قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين فسرنا في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فلما زالت الشمس لبست لأمتي، وركبت فرسي فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في فسطاطه فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله حان الرواح؟ فقال: «أجل» . فقال: «يا بلال» . فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك. فقال: أسرج لي فرسي فأخرج [ص:135] سرجا دفتاه من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر قال: فأسرج. قال: فركب وركبنا فصاففناهم عشيتنا وليلتنا فتشامت الخيلان، فولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله» . ثم قال: «يا معشر المهاجرين أنا عبد الله ورسوله» . قال: ثم اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه، فأخذ كفا من تراب، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني ضرب به وجوههم. وقال: «شاهت الوجوه» فهزمهم الله عز وجل. قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الحديد.

عاش النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه في مكَّةَ حَياةً صَعبةً، مِلْؤها أذَى الكُفَّارِ لهم، والتَّضييقُ عليهم في أمْرِ الدَّعوةِ إلى الإسلامِ، مع تَعذيبِهم وغيرِ ذلك مِن طُرقِ الإيذاءِ، ثمَّ أمَرَ اللهُ سُبحانه نَبيَّه بالهِجرةِ إلى المدينةِ
 وفي هذا الحديثِ تُخبِرُ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها طَرَفًا ممَّا عاصَرَتْه مِن تلك الفترةِ؛ فتَرْوي أنَّها لمَّا كَبِرَت ووَعَتْ كان أبَواها أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ وأمُّ رُومانَ يَدينانِ بِدينِ الإسلامِ، وكان لا يَمُرَّ يومٌ عليهم إلَّا ويَأْتيهم فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «طَرَفَيِ النَّهارِ: بُكرَةً وعَشيَّةً»، أي: مرَّةً يَأتِيهم في أوَّلِ النَّهارِ، ومرَّةً يَأتِيهم في آخِرِه، فلمَّا ابْتُلِيَ المُسلِمونَ بِأذَى المشرِكينَ، وأذِنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأصحابِه في الهِجرةِ إلى الحَبَشةِ، خرَجَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مُهاجِرًا إلى الحَبَشةِ؛ لِيَلحَقَ بمَنَ سَبَقَه مِنَ المسلِمينَ، فَسارَ حتَّى إذا بَلغَ بَرْكَ الغِمادِ -وهو مَوْضِعٌ وَراءَ مكَّةَ بِخَمْسِ ليالٍ (140 كم)- لَقِيَه ابنُ الدَّغِنَةِ، وهو سيِّدُ القارَةِ، وهي قَبيلةٌ مَشهورةٌ مِن بَني الهُونِ، فقال: أينَ تُريدُ يا أبا بَكرٍ؟ فقال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: أَخرَجَني قَومِي، أي: تَسبَّبوا في إخْراجي، فأنا أُريدُ أنْ أَسيرَ في الأرضِ، فَأَعبُدَ رَبِّي، فقالَ ابنُ الدَّغِنَةِ: إنَّ مِثلَكَ لا يَخرُجُ مِن تِلقاءِ نفْسِه، ولا يُخرِجُه أحدٌ؛ فإنَّك تَكِسبُ المَعدومَ، أي: تُعِينُ الفقيرَ وذا الحاجةِ، وتَصِلُ الرَّحِمَ مِن القَرابةِ، وتَحمِلُ الكَلَّ، والمُرادُ: كَفالةُ اليَتيمِ والعاجِزِ، وتَقْرِي الضَّيفَ، فتُهيِّئُ له طَعامَه ونُزُلَه، وتُعِينُ على نَوائبِ الحقِّ في حَوادثِه ومَصائبِه، وأنا مُجيرٌ لك ومُؤمِّنُك مِمَّنْ تَخافُهم، فارجِعْ فَاعبُدْ رَبَّكَ ببِلادِك، فَارتَحَلَ ابنُ الدَّغِنَةِ فَرجَعَ مع أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فَذهَبَ ابنُ الدَّغِنَةِ إلى أشرافِ كفَّارِ قُريشٍ وَساداتِهم، ونَصَحَهم بعدَمِ إخراجِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن مكَّةَ؛ لِما فيه مِن الصِّفاتِ والأخلاقِ التي تَقدَّمَ ذِكرُها، فَأنْفَذَتْ قُريشٌ جِوارَ ابنِ الدَّغِنَةِ وأَمضَوْه ورَضُوا به، وجَعلُوا أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه في أمانٍ مِن شَرِّهم، وقالوا لابنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أبا بَكرٍ فَلْيَعبُدْ رَبَّه في دارِه، ولْيُصلِّ ولْيَقرَأْ ما شاءَ ولا يُؤذِينا بذلك؛ إشارةً إلى ما ذُكِرَ مِنَ الصَّلاةِ والقراءةِ، ولا يَجهَرْ به؛ فإنَّا قد خَشِينا أنْ يَفتِنَ أبناءَنا ونِساءَنا، فيُخرِجَهم مِن دِينِهم إلى دِينِه، فأبْلَغَ ابنُ الدَّغِنَةِ بالَّذي شَرَطَه كَفَّارُ قُريشٍ لأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فوافَقَ عليه، وَجَعَلَ يَعبُدُ ربَّه في دارِه ولا يَستعْلِنُ بالصَّلاةِ ولا القِراءةِ في غيرِ دارِه، ثُمَّ ظَهَرَ لأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه رأْيٌ في أمْرِه بِخلافِ ما كان يَفعَلُه، فَبنى مَسجِدًا بِفِناءِ دارهِ، وما امتَدَّ مِن جَوانبِها، وهو أوَّلُ مَسجدٍ بُنِيَ في الإسلامِ، وظَهَرَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فكان يُصلِّي فيه ويَقرَأُ القرآنَ، فَيَتقصَّفُ عليه نِساءُ المشرِكينَ وأبناؤُهم، أي: يَزدَحمون ويَنظُرون إليه، وكان أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه رَجلًا كَثيرَ البُكاءِ، لا يَملِكُ إمساكَ عَينَيْه عَنِ البكاءِ مِن رِقَّةِ قَلبِه، وذلك حِين يَقرَأُ القرآنَ، فَأَخافَ ذلك أشرافَ قُريشٍ مِنَ المشركينَ؛ لِمَا يَعلَمونَ مِن رِقَّةِ قُلوبِ النِّساءِ والشَّبابِ أنْ يَميلوا إلى دِينِ الإسلامِ، فأرْسَلوا إلى ابنِ الدَّغِنَةِ، فَقدِمَ عليهم، فقالوا له: إنَّا كنَّا أمَّنَّا أبا بَكرٍ على أنْ يَعبُدَ ربَّه في دارِه، وإنَّه جاوَزَ ذلك، فَبنَى مَسجدًا بِفِناءِ دارِه وأَعلنَ الصَّلاةَ والقراءةَ، وقدْ خَشِينا أنْ يَفتِنَ أبناءَنا ونِساءَنا، فَائْتِه؛ فَإنْ أَحبَّ أنْ يَقتصِرَ على أنْ يَعبُدَ ربَّه في دارِه فَعَلَ، وإنِ امْتنَعَ إلَّا أنْ يُعلِنَ ذلك، فاطلُبْ منه أنْ يَرُدَّ إليك ذِمَّتكَ وعهْدَك له؛ فإنَّا كَرِهْنا أنْ نُخْفِرَك، أي: نَنقُضَ عَهْدَك وجِوارَك، ولسْنا مُقِرِّينَ لأبي بَكرٍ أنْ يُعلِنَ ما يَفعَلُه مِن العِبادةِ وقِراءةِ القرآنِ، ولا نَسكُتُ على الإنكارِ عليه؛ خَوفًا على نِسائِنا وأبنائِنا، فَأتى ابنُ الدَّغِنَةِ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه فقال له: قد عَلمْتَ الَّذي عَقَدْتُ لك عليه مع قُريشٍ، فإمَّا أنْ تَقتَصِرَ على الَّذي شَرَطوه، وإمَّا أنْ تُردَّ إلَيَّ ذِمَّتي وعَهْدي؛ فإنِّي لا أُحِبُّ أنْ تَسمَعَ العرَبُ أنِّي غُدِرَ بي في رَجلٍ عَقدْتُ له عَهْدًا، قال أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه: إِنِّي أَردُّ إليكَ جِوارَك وأرْضَى بجِوارِ اللهِ، أي: أكونُ في أمانِه وحِمايتِه، وفي هذا قوَّةُ يَقينِ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنه. وقد كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومئذٍ بِمكَّةَ، فأخْبَرَ المسلِمين أنَّه قدْ رَأى في مَنامِه -ورُؤيا الأنبياءِ حقٌّ ووَحْيٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ- مَكانَ هِجرتِهم، ويَقصِدُ بذلك المدينةَ، ومِن عَلاماتِها: أنَّ أرْضَها سَبْخةٌ، أي: تَعْلُوها المُلوحةُ ولا تَكادُ تُنبِتُ إلَّا بعضَ الشَّجرِ، ذاتَ نَخلٍ، بيْن لابَتَينِ: تَثْنيةُ لابَةٍ، وهي الحَرَّةُ، وهي أرضٌ بها حِجارةٌ سُودٌ، فهاجَرَ مَن هاجَرَ مِنَ المسلِمينَ قِبَلَ المدينةِ حِين ذكَرَ ذلك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ورجَعَ إلى المدينةِ بعضُ مَن كان هاجَرَ إلى أرضِ الحَبشةِ، وتَجهَّزَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه طالبًا الهِجرةَ مِن مكَّةَ، فقالَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: على مَهَلِك مِن غَيرِ عَجلةٍ؛ فَإِنِّي أرْجو أنْ يَأذنَ اللهُ لي في الهجرةِ، فقالَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: هلْ تَرجو ذلك بأبي أنتَ؟ أي: مَفْدِيٌّ أنتَ بأبي، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: نَعَمْ أرْجو ذلك، فَحَبَسَ أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه نفْسَه ولمْ يُهاجِرْ مع مَن هاجَرَ؛ لِيَكونَ صاحبًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الهجرةِ، وقد كان ما راجاهُ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكانت عندَه رَاحلتَانِ -ناقتانِ-، فعَلَفَهما وَرَقَ السَّمُرِ -وهو الورَقُ السَّاقطُ مِن الأشجارِ- أربعةَ أشهُرٍ؛ لتَتقوَّى على السَّفرِ؛ لأنَّه ورَقٌ يَحسُنُ به عَلْفُ الدَّوابِّ
 وفي الحديثِ: فَضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وأنَّه كان أشبَهَ النَّاسِ أَخلاقًا برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفيه: ما كان عليه العرَبُ المُشرِكون مِن حِفظِ العَهدِ والجِوارِ
 وفيه: مَشروعيَّةُ الهِجرةِ مِن أرضِ الكُفْرِ إلى حيث يَأمَنُ المسلمُ على دِينِه