‌‌ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم فقيل هديت الفطرة أراد به أن جبريل قال له ذلك8

صحيح ابن حبان

‌‌ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم فقيل هديت الفطرة أراد به أن جبريل قال له ذلك8

أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي بحمص حدثنا كثير بن عبيد المذحجي حدثنا حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يقول: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما ثم أخذ اللبن فقال له جبريل عليه السلام: "هديت الفطرة ولو أخذت الخمر غوت أمتك"1

كانتْ رِحلَةُ الإسْراءِ والمِعراجِ مِن المُعجِزاتِ التي أيَّد بها اللهُ عزَّ وجلَّ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد أُسرِيَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من المسجِدِ الحرامِ في مَكَّةَ إلى بيتِ المقْدِسِ في فِلسطينَ، ثم أكْرَمَه اللهُ وأصْعَدَه مع جِبريلَ إلى السَّمَواتِ العُلى.
وفي هذا الحَديثِ تَبْدو مَظاهرُ لُطفِ اللهِ تعالَى بهذه الأمَّةِ، وتَوفيقِه لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِمَا فيه الخيرُ والصَّلاحُ، ومنْعُ غَوايةِ الأُمَّةِ بكاملِها؛ فيُخبر أبو هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أثناءِ رِحلةِ الإسراءِ بإيلياء -وهي بيتُ المقدِسِ، وكانت في العامِ العاشِرِ مِن البَعثةِ-، قُدِّم له إناءانِ ضيافةً له، أحدُهما فيه خمْرٌ، والآخَرُ فيه لَبَنٌ، وفي رواياتٍ أخرى في صحيحِ البُخاريِّ أنَّه قُدِّم له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثلاثةُ آنِيَةٍ، والثَّالِثُ إناءٌ مِن عَسَلٍ، وإسقاطُ إناءِ العَسَلِ في هذه الرِّوايةِ اختِصارٌ من الرَّاوي أو نسيانٌ، ولا تَنافيَ في ذلك، فاختار النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -بتَوفيقِ اللهِ له- إناءَ اللَّبَنِ، فأخْبَرَه جِبريلُ عليه السَّلامُ أنَّه أصاب الفِطرةَ باختيارِه اللَّبَنَ، والفِطرةُ: أصْلُ الخِلْقَةِ الَّتي يكون عليها كُلُّ مَولودٍ؛ إذ يكونُ اللَّبنُ أوَّلَ ما يَدخُلُ جَوْفَهُ، وقيل: فِطْرَةُ الإسلامِ. وأخبره جبريلُ عليه السَّلامُ أنَّه لو اختارَ الخمرَ لَغَوَتْ أمَّتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولعلَّ ذلك لأنَّه لَمَّا كان اللَّبنُ غِذاءَ الأجسام ومَصلحةً لهم مُجرَّدةً عن المضارِّ غالبًا في دُنياهم -دلَّ أخْذُه له على تَوفيقِه، وسَدادِ أمَّتِه لِما فيه مَصلحتُهم في أحوالِهِم، وهِدايتِهم لذلك، ولَمَّا كانت الخمرُ تُذهِبُ العقولَ، وتُثِيرُ الفَحشاءَ والعَداوةَ والبَغْضاء -دلَّ على خِلافِ ذلك، وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ اللهَ سُبحانه وتعالَى لَطيفٌ بنَبيِّه وأمَّتِه، وقدْ هَداهُ إلى سُبلِ الرَّشادِ، واختار أُمَّةَ الإسلامِ لتكونَ مَحلَّ رِسالتِه ونُبوَّتِه، فأبعَد اللهُ عنه الغَوايةَ، وهَداهُ إلى سَواءِ السَّبيلِ.