"‌‌باب: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ما شاء أقامه منها وما شاء أن يزيغه أزاغه"130

السنة لابن ابي عاصم

"‌‌باب: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ما شاء أقامه منها وما شاء أن يزيغه أزاغه"130

ثنا هدبة ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أم محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن فإذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه"

اللهُ عزَّ وجلَّ مالِكُ كلِّ شَيءٍ، وبيَدِه أُمورُ القُلوبِ، فيَنْبغي على المُسلِمِ أنْ يَسأَلَ ربَّهُ الثَّباتَ على الحقِّ والهُدى. وفي هذا الحديثِ تُخبِرُ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يُكثِرُ أنْ يقولَ"، أي: يُكْثِرُ مِن هذا الدُّعاءِ: "يا مُثبِّتَ القلوبِ، ثَبِّتْ قَلْبي على دِينِك"، أي: اجعَلْه ثابتًا على دِينِك، غيرَ مائلٍ عن الدِّينِ القويمِ، والصِّراطِ المُستقيمِ، والخُلقِ العظيمِ، وذكَرَ كلمةَ (ثبِّتْ)، وأضافَ القلْبَ إلى نفْسِه؛ تلْميحًا وتَعلِيمًا لأُمَّتِه؛ لِيَقتَدُوا به في الدُّعاءِ والخوفِ مِنَ اللهِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مأمونُ العاقبةِ، فلا يَخافُ على نفْسِه وعلى استقامتِها؛ لقولِه تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 3، 4]، ومِن ثَمَّ خَصَّ الدِّينَ بالذِّكرِ، والمُرادُ مِن ذلك تعليمُ الأُمَّةِ. قالتْ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "يا رسولَ اللهِ، إنَّك تُكثِرُ أنْ تدْعوَ بهذا الدُّعاءِ، فهل تخافُ؟" أي: تَسألُه رضِيَ اللهُ عنها عن سببِ إكثارِه مِن هذا الدُّعاءِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "نَعَمْ، وما يُؤْمِنِّي؟" أي: وأيُّ شيءٍ يَجعَلني لا أخافُ ويُعطيني الأمانَ مِن اللهِ؟ "أيْ عائشةُ، وقلوبُ العِبادِ بين إصبَعينِ مِن أصابعِ الرَّحمنِ"، أي يتصرَّفُ فيها بحسَبِ قُدرتِه ومَشيئتِه سبحانه تعالى، لا يَفوتُه ما أرادَه سُبْحانَه، كما لا يفوتُ الإنسانَ ما كان بين إصْبَعيهِ، ومَن شاءَ اللهُ هدايتَه وفقه بفضله لهداه وثبته عليه، والذين حَقَّتْ عليهم كَلمةُ العَذابِ لا يُؤمِنُون أبدًا ولو جاءتْهم كُلُّ آيةٍ؛ فينبغي للإنسانِ سؤالُ اللهِ دائمًا أنْ يُثبِّتَه ويُصرِّفَ قلبَه على طاعتِه. وخُصَّت القلوبُ بذلِكَ لأنَّ بصَلاحِها يَصلُحُ الجسدُ كلُّه وإذا فسَدَتْ فسَدَ الجَسدُ كلُّه.

وفي الحديثِ: بَيانُ خَوفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن رَبِّه؛ حيث يَدْعو أنْ يُثَبِّتَ اللهُ قلْبَه على دِينِه.

 وفيه: بَيانُ شِدَّةِ حِرْصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على تَنبيهِ أُمَّتِه ألَّا يُصيبَها ذُهولٌ وغَفلةٌ عن مُراقبةِ الأعمالِ.

وفيه: إثباتُ صِفَةِ الأصابعِ للهِ سُبحانَه كما يَلِيقُ به، دونَ تَعطيلٍ، أو تَكييفٍ، أو تَمثيلٍ( ).