"‌‌باب: ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر" "173

السنة لابن ابي عاصم

"‌‌باب: ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر" "173

ثنا محمد بن سنان ثنا إسحاق بن إدريس ثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن لله تبارك وتعالى خزاين من الخير مفاتيحها الرجال فطوبى لمن جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر وويل لمن جعله مغلاقا للخير مفتاحا للشر"

خلَق اللهُ الخلْقَ وهَداهم إلى مَعرفةِ الحقِّ والباطلِ والخيرِ والشَّرِّ، وجعَل لكلِّ إنسانٍ إرادةً يَختارُ بها ما شاء، فإذا اختار الحقَّ والخيرَ فله الجزاءُ الحسَنُ، وإنِ اختارَ الشَّرَّ فله العِقابُ، وقد خلَق اللهُ الخيرَ والشَّرَّ، وجعَلَهما موضِعَ اختيارِ الإنسانِ وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "إنَّ هذا الخيرَ خَزائنُ"، وقد اختُلِفَ في تفسيرِ الخيرِ هُنا؛ فقيل: هو جِنسُ الخيرِ، أو هو المالُ، وخاصَّةً الَّذي يُبتَغى فيه الخيرُ، أو هو الدِّينُ، وقيل: الخيرُ ما يَرغَبُ فيه الكلُّ؛ كالعقلِ مثَلًا والعدلِ والفضلِ والشَّيءِ النَّافعِ، "ولِتِلكَ الخَزائنِ مَفاتيحُ"، أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ سيَّرَ الخيرَ في مَفاتيحَ لتلك الخزائنِ يَأخُذُ بها النَّاسُ؛ "فطُوبَى لعبدٍ جعَلَه اللهُ مِفتاحًا للخيرِ مِغْلاقًا للشَّرِّ"، أي: يَكونُ هذا العبدُ هو المِفْتاحَ لهذا الخيرِ، وما يُقابِلُ ذلك أن يَكونَ هو المُغلِقَ للشُّرورِ، ومَعْنى طُوبَى: أنَّ له مَزيدَ نَعيمٍ وفرَحٍ بالجنَّةِ، وقيل: هو اسمٌ للجنَّةِ، وقيل: هو اسمٌ لشَجرةٍ في الجنَّةِ، "ووَيلٌ لعَبدٍ جعَله اللهُ مِفتاحًا للشَّرِّ مِغلاقًا للخيرِ"، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ للشَّرِّ خَزائنَ ومَفاتيحَ، كما أنَّ للخيرِ خزائنَ ومَفاتيحَ، والشَّرُّ ضدُّ الخيرِ، والخيرُ والشَّرُّ قد يُقيَّدان، وهو أن يَكونَ خيرًا لواحدٍ وشَرًّا لآخَرَ، فإن كان الخيرُ بمَعْنى المالِ، فيَكونُ المرادُ: أنَّ المعنى الَّذي يَحْتوي على خيريَّةِ المالِ وعلى كونِه شرًّا هو المشبَّهُ بالخزائنِ، فمَن توَسَّل بفَتْحِ ذلك المعنى، وأخرَج المالَ مِنها، يُنفِقُه في سبيلِ اللهِ، ولا يُنفِقُه في سبيلِ الشَّيطانِ؛ فهو مِفتاحُ الخيرِ، مِغلاقُ الشَّرِّ، ومَن توَسَّل بإغلاقِ ذلك البابِ بإنفاقِه في سبيلِ اللهِ، وفتَحَه في سبيلِ الشَّيطانِ، فهو مِغلاقُ الخيرِ، مِفْتاحُ الشَّرِّ، وفي الترمذي: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال: "إنَّ للشَّيطانِ لِمَّةً بابنِ آدَمَ، ولِلمَلَكِ لِمَّةً"، وقرَأ قولَه عزَّ وجلَّ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] "، وفي هذا: إشارةٌ إلى هذا المعنى.
وعلى القول بأنَّ الخيرَ هنا هو الدِّينُ، فإنَّ أمورَ الدِّينِ مِن الوَحْدانيَّةِ والصَّلاةِ والزَّكاةِ وغيرِها أسبابٌ لخزائنِ الآخرةِ؛ لأنَّ الأعمالَ أسبابُ الجزاءِ، فمَن كانتْ أعمالُه حسَنةً كان جَزاؤُه حسَنًا، وبالعَكْسِ، والمرادُ مِن مَفاتيحِ الخيرِ الرِّجالُ الَّذين سبَّبهم اللهُ تعالى لعِبادِه بإيصالِ الخيرِ إليهم مِن أهلِ المعرفةِ والعلماءِ، كما أنَّ رياسَةَ الشَّرِّ لإبليسَ، واللهُ يَهْدي مَن يَشاءُ إلى صراطٍ مُستقيمٍ؛ فمَن كان مِفتاحًا للخيرِ في أيِّ بابٍ، وحائِلًا للشَّرِّ من أيِّ نوعٍ، مع إخلاصِ النِّيَّةِ والعمَلِ للهِ، فله الفضلُ والأجرُ عِندَ اللهِ، والويلُ والهلاكُ والعذابُ لِمَن كان مِفتاحًا للشَّرِّ وجالِبًا له.
وفي الحديث: الترغيبُ والحثُّ على أنْ يكونَ المرءُ مِفتاحًا للخيرِ مِغلاقًا للشرِّ، والترهيبُ والتحذيرُ مِن أن يكونَ بعَكسِ ذلِك