حديث معاذ بن جبل 21
مسند احمد

حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثني راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد، عن معاذ بن جبل قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ولعلك أن تمر بمسجدي هذا، وقبري» . فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: «إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا»
خَلقَ اللهُ تَعالى الخَلقَ لغايةٍ عَظيمةٍ، وهيَ تَوحيدُه سُبحانَه وتَعالى وعِبادَتُه، ولأجلِ ذلك أرسَلَ إلى النَّاسِ الرُّسُلَ يَدعونَهم إلى عِبادةِ اللهِ وحدَه
فما زالَ اللَّهُ تَعالى يُرسِلُ رُسُلَه وأنبياءَه مِن لَدُنْ آدَمَ عليه السَّلامُ إلى عَهدِ نَبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد دَعا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم النَّاسَ إلى التَّوحيدِ واجتَهَدَ في دَعوتِهم بكُلِّ الطُّرُقِ، وكان يُرسِلُ الرُّسُلَ إلى البُلدانِ يَدعونَ النَّاسَ لعِبادةِ اللهِ وحدَه، ولمَّا أرسَلَ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه إلى اليَمَنِ خَرَجَ مَعَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوصيه، وكان مُعاذٌ راكِبًا، أي: على دابَّتِه، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمشي تَحتَ راحِلَتِه، أي: تَحتَ دابَّةِ مُعاذٍ تَواضُعًا للَّهِ وتَلَطُّفًا للمُؤمِنينَ، فلَمَّا فرَغَ، أي: لمَّا فرَغَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن وصيَّتِه لمُعاذٍ، قال له: يا مُعاذُ، إنَّك عَسى ألَّا تَلقاني بَعدَ عامي هذا! أي: أنَّك قد تَأتي ولا تَجِدُني، وهذا فيه إشارةٌ إلى أنَّ مُعاذًا رَضِيَ اللهُ عنه لَن يَجتَمِعَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ ذلك، وكَذلك وقَعَ؛ فإنَّه أقامَ باليَمَنِ حَتَّى كانت حَجَّةُ الوداعِ، ثُمَّ كانت وفاتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ واحِدٍ وثَمانينَ يَومًا مِن يَومِ الحَجِّ. ولَعَلَّك أن تَمُرَّ بمَسجِدي وقَبري، أي: وإنَّما تَمُرُّ على مَسجِدي وعَلى قَبري، فبَكى مُعاذُ بنُ جَبَلٍ جَشَعًا لفِراقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! والجَشَعُ: الجَزَعُ لفِراقِ الإلفِ. وإنَّما بَكى مُعاذٌ لغايةِ الحِرصِ على صُحبةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَبكِ يا مُعاذُ، لَلبُكاءُ أو إنَّ البُكاءَ -وهو شَكٌّ مِنَ الرَّاوي- مِنَ الشَّيطانِ. ولَعَلَّ مُعاذًا بَكى بصُراخٍ وصَوَّتَ فنَهاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، أمَّا البُكاءُ مِن غَيرِ صُراخٍ وصَوتٍ فمِنَ الرَّحمةِ، وهو جائِزٌ، وقد بَكى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ مَوتِ ابنِه إبراهيمَ بغَيرِ صَوتٍ. فالبُكاءُ بالصُّراخِ مِنَ الشَّيطانِ
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ بَعثِ الدُّعاةِ والعُلَماءِ للنَّاسِ لتَعليمِهم أمرَ دينِهم
وفيه مَشروعيَّةُ وصيَّةِ الإمامِ لمَن يُرسِلُهم للبُلدانِ
وفيه تَواضُعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه مَشروعيَّةُ تشييعِ الأصحابِ عِندَ التَّوديعِ
وفيه عَلَمٌ مِن أعلامِ نُبُوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه فَضلُ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه
وفيه مَحَبَّةُ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه بَيانُ أنَّ رَفعَ الصَّوتِ بالبُكاءِ مِنَ الشَّيطانِ