حديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهو حديث الهجرة

مسند احمد

حديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهو حديث الهجرة

مَّا بَعَثَ اللهُ رَسولَه مُحَمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم لدَعوةِ النَّاسِ لتَوحيدِ اللهِ تَعالى، كَذَّبه قَومُه وآذَوه أشَدَّ الأذى، ولَم يُؤمِنْ مَعَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا قِلَّةٌ قَليلةٌ مِنَ الضُّعَفاءِ، فتسَلَّط كُفَّارُ قُرَيشٍ على مَن آمَنَ، وآذَوهم وضَرَبوهم وضَيَّقوا عليهم، فلَمَّا رَأى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم شِدَّةَ أذى المُشرِكينَ للمُؤمِنينَ أذِنَ لَهم بالهجرةِ إلى الحَبَشةِ، وأخبَرَهم أنَّ بها مَلِكًا لا يُظلَمُ عِندَه أحَدٌ، فهاجَرَ جَماعةٌ مِنَ الصَّحابةِ إلى الحَبَشةِ

وفي هذا الحَديثِ تَحكي أُمُّ المُؤمِنينَ أمُّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنها ما حَصَلَ لَهم عِندَما هاجَروا إلى الحَبَشةِ؛ فقد كانت مِمَّن هاجَرَ، فتَقولُ رَضيَ اللهُ عنها: لمَّا نَزَلْنا أرضَ الحَبَشةِ جاوَرْنا بها خَيرَ جارٍ؛ النَّجاشيَّ، وهو مَلِكُ الحَبَشةِ، فأمَّنَنا على دينِنا، وعَبَدْنا اللَّهَ لا نُؤذى، ولا نَسمَعُ شَيئًا نَكرَهُه. فلَمَّا بَلَغَ ذلك قُرَيشًا ائتَمَروا أن يَبعَثوا إلى النَّجاشيِّ فينا رَجُلَينِ جَلْدَينِ، أي: قَويَّينِ، وأن يُهْدوا للنَّجاشيِّ هَدايا مِمَّا يُستَطرَفُ مِن مَتاعِ مَكَّةَ، أي: مِمَّا يَكونُ في مَكَّةَ ولا يوجَدُ بأرضِ الحَبَشةِ، وكان مِن أعجَبِ ما يَأتيه مِنها إليه الأَدَمُ، أي: الجُلودُ المَدبوغةُ، فجَمَعوا له أَدَمًا كَثيرةً، ولَم يَترُكوا مِن بَطارِقَتِه بِطْريقًا إلَّا أهدَوا له هَديَّةً. والبِطْريقُ: هو الحاذِقُ بالحَربِ وأُمورِها بلُغةِ الرُّومِ. وهو ذو مَنصِبٍ وتَقدُّمٍ عِندَهم، ثُمَّ بَعَثوا بذلك مَعَ عَبدِ اللَّهِ بنِ أبي رَبيعةَ بنِ المُغيرةِ المَخزوميِّ، وعَمرِو بنِ العاصِ بنِ وائِلٍ السَّهميِّ، وأمَروهما أمرَهم، وقالوا لَهما: ادفعوا إلى كُلِّ بِطْريقٍ هَديَّتَه قَبلَ أن تُكَلِّموا النَّجاشيَّ فيهم، بحَيثُ تَكونُ هذه الهَديَّةُ رِشْوةً يَرشُونَ بها البَطارِقةَ، ثُمَّ قدِّموا للنَّجاشيِّ هَداياه، ثُمَّ سَلوه أن يُسَلِّمَهم إليكُم قَبلَ أن يُكَلِّمَهم، أي: يُسَلِّمُ لَكُم مَن هاجَرَ إلى الحَبَشةِ. قالت أمُّ سَلَمةَ: فخَرَجا -أي: عَبدُ اللَّهِ بنُ أبي رَبيعةَ، وعَمرُو بنُ العاصِ- فقَدِمَا على النَّجاشيِّ، فنَحنُ عِندَه بخَيرِ دارٍ، وعِندَ خَيرِ جارٍ، فلَم يَبْقَ مِن بَطارِقَتِه بِطْريقٌ إلَّا دَفعا إليه هَدَيَّتَه قَبلَ أن يُكَلِّما النَّجاشيَّ، ثُمَّ قالا لكُلِّ بِطْريقٍ مِنهم: إنَّه قد صَبا -أي: خَرَج مِن دينِهم ودَخَل في دينٍ جَديدٍ، وكانوا يُسَمُّونَ مَن أسلَم صابِئًا، وكانتِ العَرَبُ تُسَمِّي النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم الصَّابئَ؛ لأنَّه خَرَجَ مِن دينِ قُرَيشٍ إلى دينِ الإسلامِ، ويُسَمُّونَ المُسلمينَ الصُّباةَ- إلى بَلَدِ المَلِكِ مِنَّا غِلمانٌ سُفَهاءُ، فارَقوا دينَ قَومِهم، ولَم يَدخُلوا في دينِكُم، وجاؤوا بدينٍ مُبتَدَعٍ. يَقصِدونَ الإسلامَ، لا نَعرِفُه نَحنُ ولا أنتُم، وقد بَعَثَنا إلى المَلِكِ فيهم أشرافُ قَومِهم ليَرُدَّهم إليهم، فإذا كَلَّمْنا المَلِكَ فيهم فتُشيروا عليه بأن يُسَلِّمَهم إلينا ولا يُكَلِّمَهم؛ فإنَّ قَومَهم أعلى بهم عَينًا، أي: أبصَرُ بهم، وعَينُهم وأبصارُهم فوقَ عَينِ غَيرِهم وأعلَمُ بما عابوا عليهم. فقالوا لهما: نَعَمْ. ثُمَّ إنَّهما قَرَّبا هَداياهم إلى النَّجاشيِّ، فقَبِلَها مِنهما، ثُمَّ كَلَّماه فقالا له: أيُّها المَلِكُ، إنَّه قد صَبا إلى بَلَدِك مِنَّا غِلمانٌ سُفهاءُ، فارَقوا دينَ قَومِهم، ولَم يَدخُلوا في دينِك، وجاؤوا بدِينٍ مُبتَدَعٍ لا نَعرِفُه نَحنُ ولا أنتَ، وقد بَعَثَنا إليك فيهم أشرافُ قَومِهم مِن آبائِهم وأعمامِهم وعَشائِرِهم؛ لتَرُدَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عَينًا، وأعلَمُ بما عابوا عليهم وعاتَبوهم فيه. قالت أمُّ سَلَمةَ: ولَم يَكُنْ شَيءٌ أبغَضَ إلى عَبدِ اللَّهِ بنِ أبي رَبيعةَ وعَمرِو بنِ العاصِ مِن أن يَسمَعَ النَّجاشيُّ كَلامَهم؛ لأنَّهم على الحَقِّ، وكَلامُهم نورٌ وحَقٌّ، فقالت بَطارِقَتُه حَولَه: صَدَقوا أيُّها المَلِكُ، قَومُهم أعلى بهم عَينًا، وأعلَمُ بما عابوا عليهم، فأسلِمْهم إليهما، فليَرُدَّاهم إلى بلادِهم وقَومِهم، فغَضِبَ النَّجاشيُّ، ثُمَّ قال: لا هَا اللَّهِ، ومَعناه: لا واللَّهِ لا يَكونُ ذا، ايمُ اللَّهِ -وهيَ مِن ألفاظِ القَسَمِ- إذَن لا أُسلِمُهم إليهما، ولا أُكادُ، مِنَ المَكيدةِ والكَيدِ، أي: لا أكيدُ وأمكُرُ بقَومٍ جاوروني، ونَزَلوا بلادي، واختاروني على مَن سِوايَ حَتَّى أدعوَهم، فأسألَهم ماذا يَقولُ هذانِ في أمرِهم، فإن كانوا كما يَقولانِ أسَلَمتُهم إليهم، ورَدَدْتُهم إلى قَومِهم، وإن كانوا على غَيرِ ذلك مَنَعتُهم مِنهما، وأحسَنتُ جِوارَهم ما جاوروني. تَقولُ أمُّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنها: ثُمَّ أرسَلَ -أي: النَّجاشيُّ- إلى أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فدَعاهم، فلَمَّا جاءَهم رَسولُه اجتَمَعوا، ثُمَّ قال بَعضُهم لبَعضٍ: ما تَقولونَ للرَّجُلِ إذا جِئتُموه؟ قال: نَقولُ واللَّهِ ما عَلِمْنا، وما أمَرَنا به نَبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، كائِنٌ في ذلك ما هو كائِنٌ. فلمَّا جاؤوه، وقد دَعا النَّجاشيُّ أساقِفَتَه، والأسقُفُ: هو عالمٌ رَئيسٌ مِن عُلَماءِ النَّصارى ورُؤَسائِهم، فنَشَروا مَصاحِفَهم حَولَه، أي: أناجيلَهم، ثُمَّ سَألَهم فقال: ما هذا الدِّينُ الذي فارَقتُم فيه قَومَكُم، ولَم تَدخُلوا في ديني، ولا في دينِ أحَدٍ مِن هذه الأُمَمِ؟! قالت أمُّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنها: فكان الذي كَلَّمَه جَعفَرَ بنَ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه. فقدِ اختارَه الصَّحابةُ أن يَكونَ هو المُتَحَدِّثَ باسمِهم، فقال له جَعفَرٌ: أيُّها المَلِكُ، كُنَّا قَومًا أهلَ جاهليَّةٍ نَعبُدُ الأصنامَ، ونَأكُلُ المَيتةَ، ونَأتي الفواحِشَ، ونَقطَعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجِوارَ، يَأكُلُ القَويُّ مِنَّا الضَّعيفَ، فكُنَّا على ذلك حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إلينا رَسولًا مِنَّا، نَعرِفُ نَسَبَه، وصِدقَه، وأمانَتَه، وعَفافَه، فدَعانا إلى اللهِ لنوحِّدَه ونَعبُدَه، ونَخلَعَ -أي: نَترُكَ- ما كُنَّا نَعبُدُ نَحنُ وآباؤُنا مِن دونِه مِنَ الحِجارةِ والأوثانِ، وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ وأداءِ الأمانةِ، وصِلةِ الرَّحِمِ، وحُسنِ الجِوارِ، والكَفِّ عَنِ المَحارِمِ والدِّماءِ، ونَهانا عَنِ الفواحِشِ، وقَولِ الزُّورِ، وأكلِ مالِ اليَتيمِ، وقَذْفِ المُحصَنةِ، وأمَرَنا أن نَعبُدَ اللَّهَ وحدَه، ولا نُشرِكَ به شَيئًا، وأمَرَنا بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ -تَقولُ أمُّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنها: فعَدَّدَ عليه أُمورَ الإسلامِ- فصَدَّقْناه وآمَنَّا، واتَّبَعْناه على ما جاءَ به، فعَبَدْنا اللَّهَ وحدَه، فلَم نُشرِكْ به شَيئًا، وحَرَّمْنا ما حَرَّمَ علينا، وأحلَلْنا ما أحَلَّ لَنا، فعَدا علينا قَومُنا -أي: تَجاوزوا الحَدَّ فينا وظَلَمونا- فعَذَّبونا وفتَنونا عَن دينِنا؛ ليَرُدُّونا إلى عِبادةِ الأوثانِ مِن عِبادةِ اللهِ، وأن نَستَحِلَّ ما كُنَّا نَستَحِلُّ مِنَ الخَبائِثِ، فلَمَّا قَهَرونا وظَلَمونا وشَقُّوا علينا، وحالوا بَينَنا وبَينَ دينِنا، خَرَجْنا إلى بَلَدِك، واختَرناك على مَن سِواك، ورَغِبْنا في جِوارِك، ورَجَونا ألَّا نُظلَمَ عِندَك أيُّها المَلِكُ. تَقولُ أمُّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنها: فقال له النَّجاشيُّ: هَل مَعَك مِمَّا جاءَ به عَنِ اللهِ مِن شَيءٍ؟ قالت: فقال له جَعفَرٌ: نَعَمْ. فقال له النَّجاشيُّ: فاقرَأْه عليَّ. فقَرَأ عليه صَدرًا مِن {كهيعص...} [سورة مريم]. قالت: فبَكى -واللَّهِ- النَّجاشيُّ حَتَّى أخضَلَ لحيَتَه، أي: بَلَّها بالدُّموعِ، وبَكى أساقِفتُه حَتَّى أخضَلُوا مَصاحِفَهم حينَ سَمِعوا ما تَلا عليهم. ثُمَّ قال النَّجاشيُّ: إنَّ هذا -واللَّهِ- والذي جاءَ به عيسى ليَخرُجُ مِن مِشكاةٍ واحِدةٍ! والمِشكاةُ: الكوَّةُ غَيرُ النَّافِذةِ. وقيلَ: هيَ الحَديدةُ التي يُعَلَّقُ عليها القِنديلُ. وأرادَ أنَّ القُرآنَ والإنجيلَ كَلامُ اللَّهِ تَعالى، وأنَّهما مِن شَيءٍ واحِدٍ. انطَلِقا؛ فواللهِ لا أُسلِمُهم إليكُم أبَدًا، ولا أُكادُ أي: لا أكيدُ وأمكُرُ بهم وقد جاوروني. قالت أمُّ سَلَمةَ: فلَمَّا خَرَجا مِن عِندِه قال عَمرُو بنُ العاصِ: واللهِ لأُنبئَنَّهم غَدًا عَيبَهم عِندَهم، ثُمَّ أستَأصِلُ به خَضراءَهم، أي: أقلَعُهم وأُبيدُهم عَن أُصولِهم. قالت أمُّ سَلَمةَ: فقال له عَبدُ اللَّهِ بنُ أبي رَبيعةَ، وكان أتقى الرَّجُلَينِ فينا -أي: أرحَمَهم بنا- لا تَفعَلْ؛ فإنَّ لَهم أرحامًا، وإن كانوا قد خالَفونا. فقال عَمرُو بنُ العاصِ: واللهِ لَأخبِرنَّه أنَّهم يَزعُمونَ أنَّ عيسى بنَ مَريَمَ عَبدٌ. قالت: ثُمَّ غَدا عليه الغَدَ، فقال له: أيُّها المَلِكُ، إنَّهم يَقولونَ في عيسى بنِ مَريَمَ قَولًا عَظيمًا، فأرسِلْ إليهم فاسألهم عَمَّا يَقولونَ فيه. قالت: فأرسَلَ إليهم يَسألُهم عَنه. قالت: ولَم يَنزِلْ بنا مِثْلُه، أي: كان هذا الأمرُ شَديدًا عليهم وخافوا خَوفًا شَديدًا، فاجتَمَعَ القَومُ أي: الصَّحابةُ مَعَ جَعفرٍ، فقال بَعضُهم لبَعضٍ: ماذا تَقولونَ في عيسى إذا سَألَكُم عَنه؟ قالوا: نَقولُ واللَّهِ فيه ما قال اللَّهُ، وما جاءَ به نَبيُّنا، كائِنًا في ذلك ما هو كائِنٌ. فلَن نُداهِنَ في الحَقِّ ولَن نُبَدِّلَ ولَن نُغَيِّرَ! فلَمَّا دَخَلوا عليه قال لَهم: ما تَقولونَ في عيسى بنِ مَريَمَ؟ فقال له جَعفرُ بنُ أبي طالبٍ: نَقولُ فيه الذي جاءَ به نَبيُّنا: هو عَبدُ اللَّهِ ورَسولُه ورُوحُه، وكَلِمَتُه ألقاها إلى مَريَمَ العَذراءِ البَتولِ. والبَتولُ: هيَ المُنقَطِعةُ عَنِ الرِّجالِ لا شَهوةَ لَها فيهم. وبها سُمِّيَت مَريَمُ، قالت: فضَرَبَ النَّجاشيُّ يَدَه إلى الأرضِ، فأخَذَ مِنها عودًا، ثُمَّ قال: ما عَدا عيسى بنُ مَريَمَ ما قُلتَ هذا العودَ، أي: لَم يَختَلِفْ ما تَقولُ عَمَّا قاله عيسى بشَيءٍ، فتناخرت بطارِقَتُه، أي: تَكَلَّمَت، -وكَأنَّه كَلامٌ مَعَ غَضَبٍ ونُفورٍ- حَولَه حينَ قال ما قال، فقال: وإنِ نخَرْتُم واللَّهِ! أي: وإن تَكَلَّمتُم وغَضِبتُم، ثُمَّ قال النَّجاشيُّ للصَّحابةِ: اذهَبوا فأنتُم سُيُومٌ بأرضي، أي: آمِنونَ، وهيَ كَلِمةٌ حَبَشيَّةٌ، مَن سَبَّكُم غُرِّمَ، ثُمَّ مِن سَبَّكُم غُرِّمَ، أي: مَن تَكَلَّمَ فيكُم أو آذاكُم فإنَّ عليه غَرامةً يَدفعُها وهيَ أربَعةُ دَراهمَ وضِعفُها، كما جاءَ في بَعضِ الرِّواياتِ. فما أحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا ذَهَبًا -أي: جَبَلًا مِن ذَهَبٍ، فالدَّبْرُ بلسانِ الحَبَشةِ: الجَبَلُ- وأنِّي آذَيتُ رَجُلًا مِنكُم، ثُمَّ قال النَّجاشيُّ لحاشيَتِه:  رَدُّوا عليهم هَداياهما، فلا حاجةَ لَنا بها، فواللهِ ما أخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشوةَ حينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلكي، فآخُذَ الرِّشوةَ فيه، وما أطاعَ النَّاسَ فيَّ فأُطيعَهم فيه، أي: أنَّ اللَّهَ تَعالى لَم يَستَجِبْ للنَّاسِ حينَ أرادوا أن يَمكُروا بالنَّجاشيِّ ويَحولوا بَينَه وبَينَ المُلكِ؛ ولهذا لَم يَكُنْ للنَّجاشيِّ أن يُطيعَ ويَستَجيبَ للنَّاسِ في أن يَرُدَّ المُهاجِرينَ وهم قد آمَنوا باللهِ؛ وذلك أنَّ والِدَ النَّجاشيِّ كان مَلِكًا للحَبَشةِ فقَتَلوه، وولَّوا أخاه الذي هو عَمُّ النَّجاشيِّ، فنَشَأ النَّجاشيُّ في حَجرِ عَمِّه لَبيبًا حازِمًا، وكان لعَمِّه اثنا عَشَرَ ولَدًا لا يَصلُحُ واحِدٌ مِنهم للمُلكِ، فلما رَأتِ الحَبَشةُ نَجابةَ النَّجاشيِّ خافوا أن يَتَولَّى عليهم فيَقتُلَهم بقَتلِهم لأبيه، فمَشَوا لعَمِّه في قَتلِه، فأبى وأخرَجَه وباعَه، ثُمَّ لَمَّا كان عِشاءُ تلك اللَّيلةِ مَرَّت على عَمِّه صاعِقةٌ فماتَ، فلَمَّا رَأتِ الحَبَشةُ أن لا يُصلِحَ أمرَها إلَّا النَّجاشيُّ ذَهَبوا وجاؤوا مِن عِندِ الذي اشتَراه، وعَقدوا له التَّاجَ، ومَلَّكوه عليهم، فسارَ فيهم سيرةً حَسَنةً. قالت: فخَرَجا -أي: عَبدُ اللَّهِ بنُ أبي رَبيعةَ، وعَمرُو بنُ العاصِ- مِن عِندِه مَقبوحَينِ، مَردودًا عليهما ما جاءا به. وأقَمْنا عِندَه بخَيرِ دارٍ مَعَ خَيرِ جارٍ. قالت أمُّ سَلَمةَ: فواللهِ إنَّا على ذلك إذ نَزَلَ به -يَعني: مَن يُنازِعُه، أي: النَّجاشيَّ في مُلكِه- قالت: فواللهِ ما عَلِمْنا حُزنًا قَطُّ كان أشَدَّ مِن حُزنٍ حَزِنَّا عِندَ ذلك؛ تَخَوُّفًا أن يَظهَرَ ذلك على النَّجاشيِّ، فيَأتيَ رَجُلٌ لا يَعرِفُ مِن حَقِّنا ما كان النَّجاشيُّ يَعرِفُ مِنه. قالت أمُّ سَلَمةَ: وسارَ النَّجاشيُّ، وبَينَهما عَرْضُ النِّيلِ. فقال أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: مَن رَجُلٌ يَخرُجُ حَتَّى يَحضُرَ وقعةَ القَومِ، ثُمَّ يَأتينا بالخَبَرِ؟ فقال الزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ: أنا. قالت: وكان مِن أحدَثِ القَومِ سِنًّا، أي: أصغَرِهم في العُمرِ، فكان في بدايةِ شَبابِه، فنَفخوا له قِربةً، وهيَ ظَرفٌ مِن جِلدٍ يُخرَزُ مِن جانِبٍ واحِدٍ، وتُستَعمَلُ لحِفظِ الماءِ أوِ اللَّبَنِ ونَحوِهما،  فجَعَلَها في صَدرِه، ثُمَّ سَبَحَ عليها حَتَّى خَرَجَ إلى ناحيةِ النِّيلِ التي بها مُلتَقى القَومِ، ثُمَّ انطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهم. ودَعَونا اللَّهَ للنَّجاشيِّ بالظُّهورِ على عَدُوِّه، والتَّمكينِ له في بلادِه. واستَوثَقَ عليه أمرُ الحَبَشةِ، فكُنَّا عِندَه في خَيرِ مَنزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنا على رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو بمَكَّةَ

 وفي الحَديثِ بَيانُ شِدَّةِ إيذاءِ كُفَّارِ قُرَيشٍ للمُسلمينَ

 وفيه مَشروعيَّةُ الهجرةِ فِرارًا بالدِّينِ إلى حَيثُ يَأمَنُ الإنسانُ على دينِه

 وفيه بَيانُ أنَّ دينَ الأنبياءِ واحِدٌ، وهو الإسلامُ

وفيه بَيانُ ما كان عليه النَّجاشيُّ مِنَ العَدلِ وعَدَمِ المُحاباةِ

 وفيه فَضلُ جَعفَرِ بنِ أبي طالِبٍ؛ لتَقديمِ الصَّحابةِ له في مُخاطَبةِ النَّجاشيِّ

وفيه حُسنُ عَرضِ الإسلامِ وبَيانِه

 وفيه اشتِمالُ الإسلامِ على كُلِّ خَيرٍ، والبَعدُ عَن كُلِّ شَرٍّ

وفيه خُطورةُ الرِّشوةِ

 وفيه بَيانُ ما للهَديَّةِ مِنِ استِمالةِ القُلوبِ

وفيه أنَّ اللَّهَ تَعالى يُدافِعُ ويَنصُرُ أولياءَه

 وفيه مَشروعيَّةُ الدُّعاءِ للكافِرِ إذا كان في ذلك مَصلَحةٌ للمُسلِمينَ