ذكر الخصال التي يستوجب المرء بها الجنان من بارئه جل وعلا103
صحيح ابن حبان

أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي حدثني أبو كثير السحيمي عن أبيه قال:
سألت أبا ذر قلت دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة قال سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يؤمن بالله قال فقلت يا رسول الله إن مع الإيمان عملا قال يرضخ مما رزقه الله قلت وإن كان معدما لا شيء له قال يقول معروفا بلسانه قال قلت وإن كان عييا لا يبلغ عنه لسانه قال فيعين مغلوبا قلت فإن كان ضعيفا لا قدرة له قال فليصنع لأخرق قلت وإن كان أخرق قال فالتفت إلي وقال ما تريد أن تدع في صاحبك شيئا من الخير فليدع الناس من أذاه فقلت يا رسول الله إن هذه كلمة تيسير فقال صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من عبد يعمل بخصلة منها يريد بها ما عند الله إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى تدخله الجنة" 1
كان عِندَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم حِرصٌ على مَعرِفةِ الأعمالِ الصَّالحةِ التي تُقَرِّبُهم إلى اللهِ تعالى، وتُنجيهم مِنَ النَّارِ؛ ولذلك كانوا يَسألونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن هذه الأعمالِ حتَّى يَعمَلوا بها.
وفي هذا الحَديثِ يُخبرُ أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سَأل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عمَّا يُنجي العَبدَ مِنَ النَّارِ، أي: يُنقِذُه ويَقيه نارَ جَهَنَّمَ في الآخِرةِ. فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يُؤمِنُ باللهِ، أي: يُقِرُّ ويُصَدِّقُ باللهِ تعالى وأنَّه خالقُ الخَلقِ المُستَحِقُّ للعِبادةِ دونَ ما سِواه، واليَومِ الآخِرِ، أي: ويُقِرُّ ويُصَدِّقُ بوُجودِ يَومٍ آخَرَ يَبعَثُ اللهُ فيه العِبادَ ويَكونُ فيه الحِسابُ والجَزاءُ، وسُمِّي باليَومِ الآخِرِ؛ لأنَّه لا يَومَ بَعدَه. والمَعنى: أنَّ مَن آمَنَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ نَجا مِن عَذابِ النَّارِ. ثُمَّ قال أبو ذَرٍّ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ مَعَ الإيمانِ عَمَلًا؟ أي: فهَل مَعَ هذا الإيمانِ مِن عَمَلٍ أو يُكتَفى بالإيمانِ فقَط؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يَرضَخُ مِمَّا رَزَقَه اللهُ. الرَّضخُ: العَطاءُ القَليلُ، أي: يُنفِقُ ويَتَصَدَّقُ مِمَّا أعطاه اللهُ تعالى ولو بالقَليلِ. ثُمَّ قال أبو ذَرٍّ: يا رَسولَ اللهِ ! أرَأيتَ إن كان فقيرًا لا يَجِدُ ما يَرضَخُ به؟ أي: إذا كان الشَّخصُ مِنَ الفُقَراءِ ليسَ لدَيه مالٌ يُنفِقُه ويُعطيه، فماذا يَفعَلُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يَأمُرُ بالمَعروفِ، ويَنهى عنِ المُنكَرِ، أي: يُرشِدُ إلى الخَيرِ ويَنصَحُ، ويَدعو إلى الفضائِل، ويُحِثُّ على اجتِنابِ الرَّذائِلِ، ويَنهى عنِ القَبائِحِ، والمَعروفُ: كُلُّ ما عُرِف في الشَّرعِ حُسنُه، والمُنكَرُ: كُلُّ ما عُرِف في الشَّرعِ قُبحُه. ثُمَّ قال أبو ذَرٍّ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ إن كان عَييًّا. العِيُّ: هو العَجزُ عنِ التَّعبيرِ اللَّفظيِّ بما يُفيدُ المَعنى المَقصودَ، لا يَستَطيعُ أن يَأمُرَ بالمَعروفِ ويَنهى عنِ المُنكَرِ؟ أي: ليسَ بإمكانِه القُدرةُ على الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ؛ لأنَّ لسانَه لا يَستَطيعُ أن يُبَلِّغَ عنه مُرادَه، فماذا يَفعَلُ؟ وفي رِوايةٍ أُخرى: فإن كان عَييًّا لا يُبَلِّغُ عنه لسانُه. فقال رسولُ اللهِ: يَصنَعُ لأخرَقَ. الأخرَقُ: الجاهلُ بما يَجِبُ أن يَعمَلَه، ولم يَكُن في يَدَيه صَنعةٌ يَكتَسِبُ بها، أي: يَعمَلُ لهذا الأخرَقِ شَيئًا يَنتَفِعُ به. ثُمَّ قال أبو ذَرٍّ: أرَأيتَ إن كان أخرَقَ لا يَستَطيعُ أن يَصنَعَ شَيئًا؟ أي: إذا كان الرَّجُلُ أخرَقَ عاجِزًا ليسَ باستِطاعَتِه فِعلُ شَيءٍ، فماذا يَفعَلُ؟ فقال رسولُ اللهِ: يُعينُ مَغلوبًا. وهو الضَّعيفُ الذي أُخِذَ مِنه الشَّيءُ قَهرًا، أي: فيُساعِدُ الضَّعيفَ على حاجَتِه ويَكونُ مَعَه. ثُمَّ قال أبو ذَرٍّ: أرَأيتَ إن كان ضَعيفًا لا يَستَطيعُ أن يُعينَ مَغلوبًا؟ أي: إذا كان الشَّخصُ ضَعيفًا ليسَ لدَيه قوَّةٌ على إعانةِ الضَّعيفِ، فماذا يَفعَلُ؟ فقال رسولُ اللهِ: ما تُريدُ أن يَكونَ في صاحِبِك مِن خَيرٍ! أي: أنَّك يا أبا ذَرٍّ سَلَبتَ الرَّجُلَ عن كُلِّ خِصالِ الخَيرِ حتَّى تُريدَه ألَّا يَكونَ عِندَه أيُّ خَصلةِ خَيرٍ يَعمَلُها! والإنسانُ لا بُدَّ أن يَكونَ فيه ذَرَّةٌ مِن خَيرٍ، ولا يَخلو مِن مَحامِدَ. ثُمَّ قال رسولُ اللهِ: يُمسِكُ عن أذى النَّاسِ، أي: إذا عَجَزَ عن جَميعِ تلك الخِصالِ السَّابقةِ، فعليه أن يَمنَعَ ويَكُفَّ نَفسَه عن إيذاءِ النَّاسِ، سَواءٌ كان بالقَولِ أوِ الفِعلِ؛ فهو خَيرٌ له. فقال أبو ذَرٍّ: يا رَسول اللهِ، إذا فعَل ذلك دَخَل الجَنَّةَ؟ أي: إذا كَفَّ أذاه عنِ النَّاسِ هَل يَستَحِقُّ دُخولَ الجَنَّةِ؟ فقال رسولُ اللهِ: ما مِن مُسلمٍ يَفعَلُ خَصلةً مِن هؤلاء، أي: الخِصالِ السَّابقةِ التي ذَكَرتُ، إلَّا أخَذَتْ بيَدِه حتَّى تُدخِلَه الجَنَّةَ، أي: أمسَكَت هذه الخِصالُ بيَدِ مَن يَفعَلُها حتَّى تُدخِلَه الجَنَّةَ. والمَعنى: أنَّ الخَصلةَ المَحمودةَ تَقودُه إلى نَعيمِ الجَنَّةِ برَحمةِ اللَّهِ تعالى.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ السُّؤالِ عنِ الخِصالِ المُنجيةِ مِنَ النَّارِ.
وفيه أنَّه لا بُدَّ مَعَ الإيمانِ مِن عَمَلٍ.
وفيه تَنَوُّعُ وتَعَدُّدُ الأعمالِ الموجِبةِ لدُخولِ الجَنَّةِ.
وفيه الحَثُّ على عَمَلِ البرِّ والمُشارَكةِ في تَنفيذِ أوامِرِ اللهِ، واجتِنابِ مناهيه.
وفيه فَضلُ اللهِ ورَحمَتُه بعِبادِه .