ذكر الزجر عن الرغبة عن الآباء إذ رغبة المرء عن أبيه ضرب من الكفر142
صحيح ابن حبان

أخبرنا الحسن بن سفيان بنسا وأحمد بن علي بن المثنى بالموصل والفضل بن الحباب الجمحي بالبصرة واللفظ للحسن قالوا حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء بن أخي جويرية بن أسماء قال حدثنا عمي جويرية بن أسماء عن مالك بن أنس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أخبره
أن عبد الله بن عباس أخبره أنه كان يقرىء عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب قال فلم أر رجلا يجد من الأقشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند القراءة.
قال ابن عباس فجئت ألتمس عبد الرحمن يوما فلم أجده فانتظرته في بيته حتى رجع من عند عمر فلما رجع قال لي لو رأيت رجلا آنفا قال لعمر كذا وكذا وهو يومئذ بمنى في آخر حجة حجها عمر بن الخطاب فذكر عبد الرحمن لابن عباس أن رجلا أتى إلى عمر فأخبره أن رجلا قال والله لو مات عمر لقد بايعت فلانا قال عمر حين بلغه ذلك إني لقائم إن شاء الله العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يغتصبون الأمة أمرهم. فقال عبد الرحمن فقلت يا أمير الؤمنين لا تفعل ذلك يومك هذا فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على مجلسك فأخشى إن قلت فيهم اليوم مقالا أن يطيروا بها ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها أمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة وتخلص لعلماء الناس وأشرافهم فتقول ما قلت متمكنا فيعوا1 مقالتك ويضعوها على مواضعها.
قال عمر والله لئن قدمت المدينة صالحا لأكلمن بها الناس في أول مقام أقومه.
قال بن عباس فلما قدمنا المدينة في عقب ذي الحجة وجاء يوم الجمعة هجرت صكة الأعمى2 لما أخبرني عبد الرحمن فوجدت سعيد بن زيد قد سبقني بالتهجير فجلس إلى ركن جانب المنبر الأيمن فجلست إلى جنبه تمس ركبتي ركبته فلم ينشب عمر أن خرج فأقبل يؤم المنبر فقلت لسعيد بن زيد وعمر مقبل والله ليقولن أمير المؤمنين على هذا المنبر اليوم مقالة لم يقلها أحد قبله فأنكر ذلك سعيد بن زيد وقال ما عسى أن يقول ما لم يقله أحد قبله فلما جلس على المنبر أذن المؤذن فلما أن سكت قام عمر فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعيها فلا أحل له أن يكذب علي إن الله جل وعلا بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف.
ثم إنا قد كنا نقرأ أن "لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم".
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تطروني كما أطري بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
ثم إنه بلغني أن فلانا منكم يقول والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فلا يغرن امرءا1 أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت فإنها قد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا وتخلفت الأنصار عنا بأسرها واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فبينا نحن في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رجل ينادي من وراء الجدار اخرج إلي يا بن الخطاب فقلت إليك عني فإنا مشاغيل عنك فقال إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا فيكون بينكم وبينهم فيه حرب فقلت لأبي بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نؤمهم فلقينا أبو عبيدة بن الجراح فأخذ أبو بكر بيده فمشى بيني وبينه حتى إذا دنونا منهم لقينا رجلان صالحان فذكرا الذي صنع القوم وقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلت نريد إخواننا من هؤلاء الأنصار قالا لا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين اقضوا أمركم فقلت والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم فإذا هم في سقيفة بني ساعدة فإذا بين أظهرهم رجل مزمل فقلت من هذا قالوا سعد بن عبادة قلت فما له قالوا هو وجع فلما جلسنا تكلم خطيب الأنصار فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة من قومكم قال عمر وإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويحطوا بنا1 منه قال فلما قضى مقالته أردت أن أتكلم وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر وكنت أداري من أبي بكر بعض الحدة فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر وهو كان أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا تكلم بمثلها أو أفضل في بديهته حتى سكت فتشهد أبو بكر وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد أيها الأنصار فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره من مقالته غيرها كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر إلا أن تغير نفسي عند الموت فلما قضى أبو بكر مقالته قال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب1 منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش قال عمر فكثر اللغظ وارتفعت الأصوات حتى أشفقت الاختلاف قلت ابسط يدك يا أبا بكر فبسط أبو بكر يده فبايعه وبايعه المهاجرون والأنصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل من الأنصار قتلتم سعدا قال عمر فقلت وأنا مغضب قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة وشر وإنا والله ما رأينا فيما حضر من أمرنا أمر أقوى من بيعة أبي بكر فخشينا إن فارقنا القوم قبل أن تكون بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فسادا2 فلا يغترن امرؤ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت فقد كانت فلتة ولكن الله وقى شرها ألا وإنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر.
قال مالك أخبرني الزهري أن عروة بن الزبير أخبره أن الرجلين الأنصاريين اللذين لقيا المهاجرين هما عويم بن ساعدة ومعن بن عدي وزعم مالك أن الزهري سمع سعيد بن المسيب يزعم أن الذي قال يومئذ أنا جذيلها المحكك رجل من بني سلمة يقال له حباب بن المنذر1.
قال أبو حاتم رضى الله تعالى عنه قول عمر إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ولكن الله وقى شرها يريد أن بيعة أبي بكر كان ابتداؤها من غير ملأ والشيء الذي يكون عن غير ملأ يقال له الفلتة وقد يتوقع فيما لا يجتمع عليه الملأ الشر فقال وقى الله شرها يريد الشر المتوقع في الفلتات لا أن بيعة أبي بكر كان فيها شر. [1/101]
الإمامُ والحاكِمُ له سُلطةُ النُّصحِ والإرشادِ للرَّعِيَّةِ، وخاصَّةً فيما يقَعُ فيه اختِلافٌ، أو ما يكونُ سَببًا لوُقوعِ الشِّقاقِ بين النَّاسِ، وقد كان الخُلَفاءُ الرَّاشِدون من أكثَرِ الوُلاةِ حِرصًا على نُصحِ الرَّعِيَّةِ، وكانت وِلايتُهم من توفيقِ اللهِ لأمَّةِ الإسلامِ لِما فيه حِفظُ وَحْدَتِهم وانتشارُ الإسلامِ.
وفي هذا الحَديثِ يروي عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه كان يُعَلِّمُ رِجالًا مِن المُهاجِرينَ القُرْآنَ، مِنهم عَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوْفٍ -وكان ابنُ عَبَّاسٍ ذكيًّا سريعَ الحِفظِ، وكان كثيرٌ من الصَّحابةِ لاشتغالهم بالجِهادِ لم يستوعِبوا القُرآنَ حِفظًا، وكان من اتَّفَق له ذلك يستدرِكُه بعد الوفاةِ النبَويَّة وإقامتِهم بالمدينةِ، فكانوا يعتَمِدون على نُجَباءِ الأبناءِ فيُقرِئُونهم تلقينًا للحِفْظِ- فَبَيْنما هو يُعَلِّمُهم في المكانِ الذي كان يقيمُ فيه عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ بِمِنًى -وهو: وادٍ يُحيطُ به الجِبالُ، يقَعُ في شَرقِ مكَّةَ على الطَّريقِ بيْن مكَّةَ وجبَلِ عَرَفةَ، ويَبعُدُ عن المسجِدِ الحرامِ نحوَ سِتَّةِ كِيلومتراتٍ تَقريبًا، وهو مَوقعُ رمْيِ الجَمراتِ وتُذبَحُ فيه الهَدايا- رجع عبدُ الرَّحمنِ رَضِيَ اللهُ عنه مِن عِندِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه الذي كان أميرَ المُؤمِنين وقتَئِذٍ، وكان ذلك في آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّها عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه، فَقالَ عَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوْفٍ رضِيَ اللهُ عنه لابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: «لو رَأَيتَ رَجُلًا أَتى أَميرَ المُؤمِنينَ اليومَ»، أي: لَرَأَيْتَ عَجبًا من كلامِه؛ لأنَّ هذا الرَّجُلَ أخبر أَميرَ المُؤمِنينَ عُمَرَ بأنَّ رجُلًا يُثيرُ الفِتنةَ واللَّغطَ في أمرِ الخلافةِ، فيقولُ: لَو ماتَ عُمَرُ لبايَعْتُ فُلانًا، دونَ مَشورةٍ مِنَ المسلِمين، ثم أقسم هذا الرَّجُلُ باللهِ أنَّه ما كانت بَيْعةُ أَبي بَكْرٍ إلَّا «فَلْتةً»، أي: فَجأةً مِن غيرِ تَدَبُّرٍ. فَتَمَّت المُبايَعةُ بذلك، وكأنَّه يرى أنَّ غيرَ أبي بكرٍ كان أحَقَّ بالخِلافةِ، وهذا الكلامُ فيه مَنبتٌ للخلافِ والشِّقاقِ بين المُسلِمين، فَغَضِبَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه لَمَّا سمع ذلك، ثمَّ قالَ: «إنِّي -إنْ شاءَ اللهُ- لَقائِمٌ العَشيَّةَ» -وهو وَقتُ أوَّلِ اللَّيلِ- للخُطبةِ «في النَّاسِ»، فأُحَذِّرُهم من هؤلاء الَّذينَ يُريدونَ أنْ يَغصِبوهم أُمورَهم؛ بأن يبايِعوا أحدًا بالخِلافةِ من غيرِ مَشورةِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ. فأشار عليه عبدُ الرَّحمنِ رَضِيَ اللهُ عنه بعَدَمِ فِعلِ ذلك، مُبَرِّرًا ذلك بأنَّ مَوسِمَ الحَجِّ يَجْمَع «رَعاعَ النَّاسِ» أي: الجَهَلةَ الأَراذِلَ، «وغَوْغاءَهم»، أي: السِّفْلةَ المُتسَرِّعين إلى الشَّرِّ، وهؤلاء هُم الَّذين يَغلِبونَ على المَكانِ الَّذي يَقرُبُ مِنك، حينَ تَقومُ في النَّاسِ لِلخُطبةِ، ولا يَترُكون المَكانَ القَريبَ إلَيْك لِأُولي النُّهى مِن النَّاسِ، وأخبره عبدُ الرَّحمنِ رَضِيَ اللهُ عنه أَنه يَخْشى أن يَقومَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه فَيَقولَ مَقالةً يُطَيِّرُها عنه كُلُّ مُطَيِّر، أي: يَحمِلونها على غَيْرِ وَجْهِها ويَنشُرونها، دون أن يَعرِفوا المُرادَ مِنها، ويخشى ألَّا يَضَعوها على مَواضِعِها الصَّحيحةِ، فيكونَ في ذلك كُلِّه شَرٌّ، وأنَّ عليه أن يَصبِرَ حتَّى يأتيَ المَدينةَ؛ فَإنَّها دارُ الهِجرةِ والسُّنَّةِ، فينفَرِدَ ويتَّصِلَ بأهلِ الفِقْهِ وأَشْرافِ النَّاسِ، فيقولَ فيهم ما أراد مُتَمَكِّنًا، فَيَعي أَهلُ العِلمِ مَقالتَه ويَضَعونَها على مَواضعِها، فأخذ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه بنصيحةِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ رَضِيَ اللهُ عنه ورأيِه، ثمَّ قال مُقسِمًا أنَّه سيُسارعُ بتلك الخُطبةِ مع أوَّلِ رُجوعِه للمَدينةِ مَقَرِّ إقامتِه وخِلافَتِه. ويخبِرُ ابنُ عَبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّهم رجعوا إلى المدينةِ بعد ذي الحِجَّةِ، ولَمَّا جاء يَوْمُ الجُمُعةِ أسرَعَ إلى المسجِدِ حينَ زاغَت الشَّمسُ، أي: زالَتْ عن وسَطِ السَّماءِ وحان وقتُ الصَّلاةِ، فوجد في المسجِدِ سَعيدَ بنَ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ رضِيَ الله عنه جالِسًا إلى رُكنِ المِنْبَرِ، فجلس بجواره تَمَسُّ رُكْبَتي رُكْبتَه، فَلَم يَمْكُثْ وقْتًا طويلًا حتى خَرَجَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه مِن مَكانِه إلى جِهةِ المِنْبَرِ، فلمَّا رآه ابنُ عَبَّاسٍ مُقبِلًا، قال لِسَعيدِ بنِ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ليَقولَنَّ عُمَرُ العَشيَّةَ مَقالةً لَم يَقُلْها مُنذُ اسْتُخلِفَ قَطُّ، أراد ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما بذلك أن يُنَبِّهَ سعيدًا معتَمِدًا على ما أخبره به عبدُ الرَّحمنِ؛ لِيَكونَ على يقَظةٍ، فيُلقِيَ بالَه لِما يقولُه عُمَرُ، وقَولُه: «العَشِيَّة» إشارةً أنَّها تقالُ لوَقتٍ من الرَّواحِ إلى اللَّيلِ، فأَنْكرَ ذلك سعيدٌ؛ لأنَّه لم يعلَمْ بما سبق وحدث مع عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه في الحَجِّ، وقالَ لابنِ عبَّاسٍ: «ما عَسَيْتَ أن يَقولَ ما لَم يَقُلْ قَبْلَه؟!»، أي: ما رجوتَ وتوقعتَ؟! وكان ذلك الاستبعادُ منه؛ لأنَّ الفرائِضَ والسُّنَنَ قد تقَرَّرَت. فَجَلَسَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه على المِنْبَرِ، فلمَّا سَكَتَ «المُؤَذِّنونَ»، أي المؤذِّنُ الذي يؤذِّنُ بين يَدَيِ الخَطيبِ حينَ يجلِسُ على المنبَرِ، ويكونُ قد سكت قَبْلَه المؤذِّنُ الذي يُؤَذِّنُ خارجَ المسجِدِ، فوقَفَ عُمَرُ على المنبَرِ، فَأَثْنى على اللهِ بِما هو أَهلُه من الحَمدِ والشُّكرِ، ثمَّ قالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإنِّي قائِلٌ لَكُم مَقالةً قَدْ قُدِّرَ لي أنْ أَقولَها» أي: قد حان وقتُ بيانها وذِكْرِها، «لا أَدْري لَعَلَّها بَيْنَ أَيدي أَجَلي»، وهذا استشعارٌ منه بقُربِ وفاتِه، فَمَن عَقَلَها ووَعاها بالفَهمِ الصَّحيحِ، فَليُحَدِّثْ بِها وليَنْشُرْها بين النَّاسِ حَيْثُ انْتَهَتْ بِه راحِلتُه التي يركَبُها وتنقُلُه من بلَدٍ إلى آخَرَ، وفي ذلك حَضٌّ منه لأهلِ العِلمِ والضَّبطِ على التبليغِ والنَّشرِ في الأسفارِ، ولكِنْ مَن خَشِيَ أن لا يَعقِلَها فَلا أُحِلُّ لأَحَدٍ أنْ يَكذِبَ عَلَيَّ، ثم أخبر رَضِيَ اللهُ عنه النَّاسَ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحَقِّ ليدعُوَ إليه النَّاسَ، وأَنزَلَ عليه الكِتابَ العَزيزَ الَّذي لا يَأتيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْه ولا مِن خَلفِه؛ فهو كتابٌ مُحكَمٌ لا رِيبةَ فيه، وقال ذلك توطِئةً لِما سيقولُه، ورَفعًا للرِّيبةِ، ودَفعاً للتُّهمةِ، ثم قال: فَكانَ مِمَّا أَنزَلَ اللهُ في القُرآنِ آيةُ الرَّجمِ، وهي (الشَّيخُ والشَّيخةُ إذا زَنَيا فارجموهما البتَّةَ)، «فَقَرَأْناها وعَقِلْناها ووَعَيْناها»، ثم نُسِخَ لَفظُها وبَقِيَ حُكمُها؛ «فَلِذا رَجَمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» وأمرَ برَجمِ المُحصَنِينَ المتزوِّجين إذا وقعوا في الزِّنا وقامت عليهم البَيِّنةُ، ورَجَمْنا بَعْدَه، ثم أخبرهم عُمَرُ أنَّه يخافُ إنْ طالَ بالنَّاسِ زَمانٌ أن يَقولَ قائِلٌ مِنهم: واللهِ ما نَجِدُ آيةَ الرَّجمِ في كِتابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَركِ فَريضةٍ أَنزَلَها اللهُ تعالَى في كِتابِه، والرَّجْمُ في كِتابِ اللهِ حَقٌّ على مَنْ زَنى إذا أُحْصِنَ، وهو المتزوِّجُ أو من سبق له الزَّواجُ، وكانَ بالِغًا عاقِلًا، مِن الرِّجالِ والنِّساءِ إذا قامَت البَيِّنةُ، أو وُجِدَت المَرأةُ الخَليَّةُ مِن زَوْجٍ أو سَيِّدٍ حُبْلى، ولَم تَذكُرْ شُبهةً ولا إكراهًا، أو كانَ الاعتِرافُ، وهو الإقْرارُ بالزِّنى. ثمَّ قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: إنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فيما نَقْرَأُ مِن كِتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ممَّا نُسِخَت تلاوتُه وبَقِيَ حُكمُه: (ألَّا تَرغَبوا عن آبائِكم) فَتَنتَسِبوا إلى غَيْرِهم (فإنَّه كُفرٌ بِكُم أنْ تَرغَبوا عن آبائِكم) إنِ استَحلَلتُموه، (أو إنَّ كُفْرًا بِكمْ أنْ تَرغَبوا عن آبائِكم)، وليس المرادُ الكفرَ الَّذي يُخلَّدُ صاحبُه في النَّارِ، وإنَّما المرادُ الكُفرُ بِالنِّعمةِ؛ إذ أنكرَ حقَّ أبيه عليه، وفعَل ما يُشبِهُ أفْعالَ أهلِ الكُفرِ، وإنِ استحَلَّ ذلك خرَج عنِ الإسْلامِ، أو المرادُ التغليظُ والتَّشنيعُ عليه لزَجرِ فاعلِه؛ إعظامًا لذلك، وقد يُعْفى عنه، أو يَتوبُ فيَسقُطُ عنه العِقابُ. وقدْ كانت العربُ قبْلَ الإسلامِ لا يَستنكِرونَ أنْ يَتبنَّى الرَّجلُ منهم غيرَ ابنِه، ويَنسُبَه إليه، ولم يَزَلْ ذلك أيضًا في أوَّلِ الإسلامِ حتَّى أنْزَلَ اللهُ: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4]، وأنْزَلَ: {ادْعُوهُم لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، فأمَرَ بِنسبةِ الابنِ إلى أبيهِ، ونَهى عَن نِسبتِه إلى غيرِه. ثم أخبر عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ: «لا تُطْرُوني» أي: لا تُبالِغوا في مَدْحي بالباطِلِ، كَما أَطْرَتِ النَّصارى عيسى بنَ مَرْيَمَ عليهما السَّلامُ، فجَعَلوه إلهًا مع اللهِ أو ابنًا للهِ، ولكِنْ قُولوا: محمدٌ عَبْدُ اللهِ ورَسولُه. ثمَّ أخبر عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه بلغه أنَّ قائِلًا يَقول: واللهِ، لَو ماتَ عُمَرُ بايَعتُ فَلانًا، دونَ مَشورةٍ مِنَ المُسلِمينَ، ثم حَذَّرَهم عُمَرُ مِن ذلك، فقال: فَلا يَغْتَرَّنَّ امرُؤٌ أن يَقولَ: إنَّما كانَتْ بَيْعةُ أَبي بَكْر فَلْتةً، أي: فَجْأةً مِن غَيرِ مَشورةٍ مَعَ جَميعِ مَنْ كانَ يَنبَغي أنْ يُشاوَروا وتَمَّت، ألَا وإنَّها كانَت كذلِك، ولَكِنَّ اللهَ «وَقى» -أي: دَفَعَ- شَرَّها ولم تحدُثْ فِتنةٌ بين المُسلِمين، ومع ذلك فلَيْسَ مِنكم مَن رجُلٍ تُقْطَع أَعْناقُ الإبِلِ مِن كَثرةِ السَّيْرِ إلَيْه لفَضْلِه، مِثْلُ أَبي بَكْرٍ رضِيَ اللهُ عنه في الفَضلِ والتَّقَدُّمِ؛ لأنَّه سبق كُلَّ سابقٍ، فلا يَطمَعُ أحَدٌ أن يقَعَ له مِثلُ ما وقع لأبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه من المبايَعةِ له أوَّلًا في الاجتماعِ اليسيرِ الذي حدث في سَقيفةِ بني ساعِدةَ، ثم اجتِماعِ النَّاسِ إليه وعَدَمِ اختِلافِهم عليه لَمَّا تحقَّقوا من استِحقاقِه؛ لِما اجتمع فيه من الصِّفاتِ المحمودةِ مِن قُوَّتِه في اللهِ، ووَرَعِه التَّامِّ، فلم يحتاجُوا في أمْرِه إلى نَظَرٍ ولا إلى مُشاورةٍ أُخرى، وليس غيرُه في ذلك مِثْلَه. ثم قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: مَن بايَعَ رَجُلًا عن غَيرِ مَشورةٍ مِن المُسلِمينَ فَلا يُبايَع هو ولا الَّذي بايَعَه «تَغِرَّةً» أي: مَخافةَ أنْ يُقْتَلا، أَي: يُقتلَ الاثنانِ؛ المُبايَعُ والمُبايِعُ، وهذا تحذيرٌ شديدٌ من التهَوُّرِ والتجَرُّؤِ على مبايعةِ شَخصٍ لم يُجمِعْ عليه المسلِمون. ثم أخبر عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه عن كيفيَّةِ مبايعةِ أبي بكرٍ، فقال: وإنَّه قَد كانَ مِن خَبرِنا حينَ تَوَفَّى اللهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الأنْصارَ -وهم أهلُ المدينةِ- خالَفونا -نحن المهاجِرينَ- واجتَمَعوا بأَسْرِهم، أي بمُعظَمِهم وأغلَبِهم، أو بجَميعِ أفرادِهم، في سَقيفةِ بَني ساعِدةَ -وهو مَوضِعٌ مُسقَّفٌ يَجتَمِعُ إليه الأنْصارُ، وبَنو ساعِدةَ: بَطْنٌ مِنَ الخَزْرجِ-؛ لِفَصلِ القَضايا وتَدبيرِ الأُمورِ، ولم يحضُرْ عَلِيٌّ والزُّبَيْرُ ومَن مَعَهما، فَلَم يَجتَمِعوا مَعَنا عِنْدَها حينَئِذٍ، واجْتَمَعَ المُهاجِرونَ إلى أَبي بَكْرٍ رضِيَ اللهُ عنه؛ ليَنظُروا في أمرِ الخلافةِ ومن سيتولَّى شُؤونَ المُسلِمين عَقِبَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقال عُمرُ لِأَبي بَكْرٍ رضِيَ اللهُ عنهما: «يا أَبا بَكْرٍ، انْطَلِقْ بِنا إلى إخْوانِنا هؤلاء مِن الأنْصارِ» يريدُ أن يَحضُروا اجتِماعَ الأنصارِ القائِمَ في وَقْتِه حتى تكونَ كَلِمةُ المُسلِمين واحِدةً، وهذا من توفيقِ اللهِ لعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، فانطلَقوا إليهم، فلما اقتَرَبوا مِنهم لَقِيَهم رَجُلانِ صالِحانِ -هما عُوَيْمُ بنُ ساعِدةَ ومَعْنُ بنُ عِدِيٍّ الأَنْصاريُّ- فَذَكَرا ما اتَّفَقَ عليه القَوْمُ من الأنصارِ، مِن أنَّهم يُبايِعون لِسَعْدِ بنِ عُبادةَ رضِيَ اللهُ عنه بالخِلافةِ، فَقالا: «أَينَ تُريدون يا مَعْشَرَ المُهاجِرينَ؟ فقُلْنا: نُريد إخْوانَنا هؤلاء مِن الأَنْصارِ، فَقالا: لا عليكم ألَّا تَقرَبوهم، اقْضُوا أَمرَكم»، وفي روايةِ البَزَّارِ: «أمهِلوا حتى تَقْضُوا أمْرَكم»، ومعناه أن يسارِعَ المهاجِرون إلى مبايَعةِ خليفةٍ منهم أيضًا قبل أن يَذهَبوا إلى الأنصارِ. ولكِنَّ عُمَرَ لم يَسمَعْ لهما وقال: واللهِ لَنَأتِينَّهم، فذهبوا إلى الأنصارِ حتى دخلوا عليهم في السَّقيفةِ، فَإذا رَجُلٌ مُتَلَفِّفٌ بِثَوْبِه بيْنهم، فسأل عمرُ رَضِيَ اللهُ عنه: مَنْ يكونُ؟ فقالوا: هذا سَعْدُ بنُ عُبادةَ. فقال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: «ما له؟ قالوا: يُوعَكُ»، أي: مريضٌ يَحصُلُ له الوَعْكُ، وهو حُمَّى وحرارةٌ شديدةٌ يكونُ معها رعشةٌ في الجسَدِ. فلمَّا جَلَس المهاجِرون مع الأنصارِ قَليلًا، قام خطيبُ الأنصارِ -قيل هو: ثابِتُ بنُ قَيسِ بنِ شَمَّاسٍ- فتَشهَّد، وَأَثْنى على اللهِ بِما هو أَهلُه، ثمَّ قالَ: أَمَّا بَعدُ؛ فَنَحْنُ أَنْصارُ اللهِ لِدينِه وكَتيبةُ الإسلامِ، وهو الجيشُ المجتَمِعُ، وأنتُم مَعْشَرَ المُهاجِرينَ «رَهْطٌ» وهو ما دونَ العَشَرةِ، أي: فأنتُم قَليلٌ بِالنِّسبةِ إلى الأَنْصارِ، وقَدْ «دَفَّتْ دافَّةٌ» وَفدْتُم وأنتم رُفقةٌ قَليلةٌ مِن مَكَّةَ مهاجرين إلَيْنا مِن الفَقرِ ومِن قَومِكم، ثم عرَّض بهم يقولُ: فَإذا هؤلاء النَّفَرُ القليلُ مِنَ المهاجرين يُريدون أَن «يَختزِلونا»، أي: يَقطَعونا مِن أصلِنا، وأنْ «يَحضُنونا»، أي: يُخرِجونا مِن الإمارةِ، ويَستَأثِروا بِها علينا. قالَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: فلمَّا سَكَتَ خَطيبُ الأنصارِ أَرَدتُ أن أَتَكلَّمَ وكُنتُ زَوَّرتُ -أي: هَيَّأتُ وحَسَّنتُ- مَقالةً أَعجَبتْني أُريد أنْ أُقدِّمَها بَيْن يدَيْ أَبي بَكْرٍ رضِيَ اللهُ عنه، وكُنتُ أُداري مِنه بَعضَ ما يَعتَريه مِن الحَدِّ، أي: كالغَضَبِ، فلمَّا أَرَدتُ أن أَتكَلَّمَ، قال أَبو بَكْرٍ رضِيَ اللهُ عنه: «على رِسْلِك»، أي: انتظِرْ واستَعمِلِ الرِّفقَ والتُّؤَدةَ، فكَرِهتُ أن أُغضِبَه، فَتكَلَّم أَبو بَكْر رضِيَ اللهُ عنه، فَكانَ هو أَحلَمَ مِنِّي، والحِلمُ: هو الطُّمَأنينةُ عِندَ الغَضَبِ، «وأَوْقَرَ» مِن الوَقارِ، وهو التَّأنِّي في الأُمورِ والرَّزانةِ عِندَ التَّوَجُّهِ إلى المَطالِبِ، واللهِ ما تَرَكَ مِن كَلِمةٍ أَعجَبتْني قد هيأتُ نفسي أن أقولَها إلَّا قالَ في بَديهتِه مِثلَها أو أَفضلَ، حتَّى سَكَتَ. فَقالَ أَبو بَكْرٍ رضِيَ اللهُ عنه للأنصارِ: ما ذَكَرتُم فيكمْ مِن خَيرٍ فأنتُم لَه أَهلٌ، «ولَن يُعرَفَ هذا الأَمرُ» يريدُ الإمارةَ والخِلافةَ، «إلَّا لِهذا الحَيِّ مِن قُرَيْش»؛ لأنهُم «أَوْسَطُ العَرَبِ» فهم أَعدَلُها وأَفضَلُها نَسبًا ودارًا، وقَدْ رَضيتُ لكُم أَحَدَ هذَيْن الرَّجُلينِ، فَبايِعوا أَيَّهما شِئتُم. يَقولُ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: فَأَخَذَ أَبو بَكْرٍ رضِيَ اللهُ عنه بيَدي وبيَدِ أَبي عُبَيْدةَ بنِ الجَرَّاحِ رضِيَ اللهُ عنه، وهو جالِسٌ بَيْنَنا، فَلَم يَكْرَهْ عُمرُ شيئًا ممَّا قالَ أبو بكر غَيْرَ هذه الكَلِمةِ، وأقسَمَ باللهِ أنَّه إنْ قُدِّمَ لِتُضرَبَ عُنُقُه ضربًا لا يَعصي اللهَ به، فيُقتَلَ؛ أَحَبُّ إلَيه مِن أن يتولَّى أمرَ قَوْمٍ فيهم أَبو بَكْر رضِيَ اللهُ عنه، اللَّهُمَّ إلَّا أنْ تُزَيِّن له نَفْسُه عِندَ المَوْتِ شَيْئًا لا يَجِدُه الآنَ. فما انتهى أبو بكرٍ من خُطْبَتِه، حتى قالَ قائِلٌ الأَنْصارِ -هو حُبابُ بنُ المُنْذِرِ رضِيَ اللهُ عنه-: «أَنا جُذَيْلُها المُحَكَّكُ»، الجُذَيْل: هو أَصلُ الشَّجَرِ، ويُرادُ بِه هُنا الجِذْعُ الَّذي تُرْبَطُ إلَيْه الإبِلُ الجَرْباءُ، وتَنضَمُّ إلَيْه لِتَحتَكَّ، والتَّصْغيرُ للتَّعظيمِ، والمُحَكَّك: وصَفَه بذلك؛ لِأَنَّه صارَ أَملسَ لِكَثرةِ ذلك، يَعْني أنا مِمَّن يُستَشفى بِه، كما تَستَشِفي الإبِلُ الجَرباءُ بهذا الاحتِكاكِ، «وعُذَيْقها» النَّخلةُ، «المُرْجَّب» رَجَّبتُ النَّخلةَ تَرجيبًا؛ إذا دَعَّمتَها ببِناءٍ أو غَيرِه خَشيةً عليها؛ لِكَرامتِها وطُولِها وكَثرةِ حِمْلِها أنْ تَقَعَ أو يَنكسِرَ شَيءٌ مِن أغصانِها أو يَسقُطَ شَيءٌ مِن حِمْلِها، أراد أنَّ كَلِمَتَه الآتيةَ هي الفاصِلةُ والنَّاهيةُ لهذا الخلافِ، فقال: مِنَّا مَعْشَرَ الأَنْصارِ أميرٌ، ومِنكُم أَميرٌ يا مَعْشَرَ قُرَيْش، فارتَفَعَت الأصواتُ والجَلَبةُ، حتَّى خاف عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه مِن الاخْتِلافِ الحاصلِ. فَقالَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: ابْسُطْ يَدَك يا أَبا بَكْر أُبايِعْك، فَبَسَطَ يَدَه فَبايَعَه عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه وبايَعَه المُهاجِرونَ، ثمَّ بايَعتْه الأَنْصارُ، فأخبر عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه أنهم بذلك غَلَبوا سَعْدَ بنَ عُبادةَ رضِيَ اللهُ عنه، ولم يبايَعْ له، فَقالَ قائِلٌ مِنهم: «قَتَلتُم سَعْدَ بنَ عُبادةَ»، أَيْ: صَيَّرتُموه بالخِذْلانِ وسَلبِ القُوَّةِ كالمَقتولِ، فَقالَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: «قَتَلَ اللهُ سَعدَ بنَ عُبادةَ» إخبارٌ عَمَّا قدَّره اللهُ تعالى من مَنْعِه الخِلافةَ، أو دعاءٌ عليه لكَونِه لم ينصُرِ الحَقَّ. قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: «وإنَّا واللهِ ما وجَدْنا فيما حَضَرْنا مِن أَمرٍ أَقْوى مِن مُبايَعةِ أَبي بَكْر رضِيَ اللهُ عنه»؛ لأنَّ إهْمالَ أَمْرِ المُبايَعةِ كانَ سيُؤدِّي إلى الفَسادِ الكُلِّيِّ، وعَلَّل ذلك بأنهم خافوا إنْ فارَقوا الأنصارَ ولَم تؤخَذْ بَيْعةٌ، أن يُبايِعوا رَجُلًا مِنهُم بَعْدَ أن يذهَبَ المهاجِرون، فَإمَّا أن يبايعوهم على ما لا يَرضَون، وإمَّا أن يُخالِفوهم، فَيَحدُثَ فَسادٌ. وهذا رأيٌ سديدٌ، وقد وقى اللهُ به المسلِمين من الوُقوعِ في الخِلافِ والشَّرِّ. ثم قال عُمَرُ: فَمَن بايَعَ رَجُلًا على غَيْرِ مَشورةٍ مِن المُسلِمينَ، فَلا يُتابَعُ هو ولا الَّذي بايَعَه، «تَغِرَّةً» مَخافةَ أن يُقْتَلا، فَلا يَطمَعنَّ أَحدٌ أن يُبايَع وتَتِمَّ لَه المُبايَعةُ، كَما وقَعَ لأَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضِيَ اللهُ عنه.
وفي الحَديثِ: أنَّ العِلْمَ يُصانُ عن غَيرِ أَهْلِه، ولا يُحدَّثُ مِنه النَّاسُ إلَّا بما يُرجى ضَبْطُهم له.
وَفيه: أنْ يَرُدَّ على الإمامِ بَعضُ أَصحابِه إذا ظهر لهم الأَصوَبُ والأَوْلى.
وَفيه: رُجوعُ الإمامِ إلى الصَّوابِ، وتَركُ ما كانَ مِن قَوْلِه هو لِقَولِ النَّاصِحِ مِن مَأموميهِ.
وفيه: أنَّ الدَّقيقَ مِن الأحكامِ يَنْبَغي أنْ يُتَوَخَّى بِنَشرِه خَواصُّ النَّاسِ ووُجوهُهم وأَشرافُهم، مِمَّن تَقَدَّمَت مِنه الدَّرَجةُ، فيَضَع كُلَّ شَيءٍ مِنه على مَوضِعِه.
وفيه: بيانُ فَضلِ المهاجِرين والأنصارِ؛ حيث اتَّفَقوا على من يخلُفُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه: فَضيلةُ الصَّحابيَّينِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ، وعُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنهما، وفِقْهُهما، ومُبادَرَتُهما لِما فيه صَلاحُ الأُمَّةِ.
وفيه: أهميَّةُ خِلافةِ الأُمَّةِ في صلاحِ الدِّينِ والدُّنيا؛ فالصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم لم يؤَخِّروها بعد مَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بل انشَغلوا بها.
وفيه: أنَّ بَعضَ القُرآنِ يُنسَخُ لَفْظُه، ويبقى حُكمُه.
وفيه: أهميَّةُ الاتِّفاقِ واجتِماعِ الكَلِمةِ ونَبْذِ الخِلافِ بين المُسلِمين.
وفيه: أنَّه لا اجتهادَ مع النَّصِّ؛ فالصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم أذعَنوا لِقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندما أخبرهم به أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وكانوا قبل ذلك يجتَهِدون في الأمرِ.