مسند الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها 201
مسند احمد

حدثنا عفان، وبهز، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير - قال عفان: أخبرنا عبد الملك بن عمير - عن موسى بن طلحة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة، فقلت: لقد أعقبك الله عز وجل من امرأة - قال عفان: من عجوزة من عجائز قريش - من نساء قريش، حمراء الشدقين، هلكت في الدهر. قالت: " فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي، أو [ص:90] عند المخيلة حتى ينظر: أرحمة أم عذاب؟ "
كانت خَديجةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ أُمُّ المُؤمِنينَ رَضيَ اللهُ عنها شَريفةً في قَومِها، تَزَوَّجَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانت أحَبَّ نِسائِه إليه، وعاش بعْدَ أنْ تَزَوَّجَها ثَمانيةً وثَلاثينَ عامًا، وانفَرَدَتْ خَديجةُ رَضيَ اللهُ عنها منها بِخَمسةٍ وعِشرينَ عامًا، وهي نَحوُ الثُّلُثَينِ مِن المَجموعِ، ومعَ طُولِ المُدَّةِ صَانَ قَلْبَها فيها مِنَ الغَيرةِ، ومِن نَكَدِ الضَّرائِرِ، وهي فَضيلةٌ لم يُشارِكْها فيها غَيرُها
وفي هذا الحَديثِ تَرْوي عائشةُ أُمُّ المؤمِنينَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَذكَّرَ ذاتَ يومٍ زَوجتَه خَديجةَ بنتَ خُوَيلدٍ رَضيَ اللهُ عنها، فأطالَ وأكثَرَ مِن الثَّناءِ عليها، وذِكرِ فَضائلِها ومَحاسِنِها، فشَعَرَت عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها بالغَيْرةِ، فقالت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لقدْ أعقَبَكَ اللهُ»، فأعْطاكَ بعْدَها زَوْجاتٍ أجمَلَ وأكثَرَ شَبابًا، أمَّا خَديجةُ رَضيَ اللهُ عنها فكانتِ امْرأةً عَجوزًا كَبيرةَ السِّنِّ حَمْراءَ الشِّدقَينِ، والشِّدقُ: جانبُ الفَمِ، وتَقصِدُ: سُقوطَ الأسْنانِ مِن الكِبَرِ، فلم يَبْقَ بشِدْقَيْها بَياضٌ بلْ حُمرةُ اللِّثَةِ، وهذا الكَلامُ يدُلُّ على الغَيْرةِ الشَّديدةِ معَ عدَمِ إظْهارِ التَّبْجيلِ اللَّازِمِ في حقِّ خَديجةَ رَضيَ اللهُ عنها، ولعلَّ ذلك جَرى مِن عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها؛ لصِغَرِ سِنِّها وأوَّلِ شَبيبَتِها، وهي أيضًا طَبيعةٌ في النِّساءِ، ولكنْ تَغيَّرَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وغَضِب غَضبًا شَديدًا مِن قَولِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، لدَرَجةِ أنَّ تغَيُّرَ وَجهِه الشَّديدَ كان مِثلَ تَغيُّرِه عندَ نُزولِ الوَحيِ، وقدْ كان يَثقُلُ عليه جدًّا، ويَحْمَرُّ وجْهُه؛ لِما كان يُقاسيهِ مِن شدَّةِ الوَحيِ، وتَجمُّعِ الفِكرِ والوَعيِ، ويظَلُّ كذلك حتَّى يَنقَضيَ الوَحيُ، أو كان وَجْهُه مُتغيِّرًا ومُحمَرًّا مِثلَما كان يَحدُثُ هُبوبُ الرِّيحِ أوِ العَواصِفِ والسُّحبِ المُحمَّلةِ بالمَطرِ، وإنَّما كان وَجْهُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتغَيَّرُ عندَ ذلك؛ خَوفًا مِن أنْ يكونَ ذلك رَسولَ عَذابٍ كما أُرسِلَ إلى قَومِ هُودٍ، كما في قولِه تعالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] ، وكان يظَلُّ خائفًا حتَّى تَنجَليَ، فيَعلَمَ أنَّه كان رَحمةً، وليس عَذابًا
وفي الحَديثِ: بَيانُ فَضلُ خَديجةَ رَضيَ اللهُ عنها ومَنقَبَتِها
وفيه: دَلالةٌ على حُسنِ العَهدِ، وحِفظِ الوُدِّ، ورِعايةِ حُرمةِ الصَّاحبِ والمُعاشِرِ؛ حيًّا وميِّتًا
وفيه: أنَّ الغَيْرةَ غَريزةٌ في النَّفْسِ، لا يُلامُ عليها الإنْسانُ، إلَّا إذا زادَتْ عن حَدِّها، أو أدَّتْ إلى مُخالَفةٍ شَرعيَّةٍ