مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما186
مسند احمد

حدثني يزيد، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: " الحنيفية السمحة " (1)
بيَّنَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الإسْلامَ دِينُ يُسرٍ؛ فقدْ رفَع اللهُ به الحرَجَ والضِّيقَ والإثْمَ عنِ النَّاسِ، ووسَّعَ عليهم دونَ تَجاوُزٍ.
وفي هذا الحَديثِ تُخبِرُ عائشةُ رَضِي اللهُ عنها زَوجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذاتَ يوْمٍ لمَّا سَمِعوا غِناءً وأصْواتَ الحَبَشةِ وهي تَرقُصُ، فوضَعَت ذَقَنَها على كَتِفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ مُجتمَعِ رأْسِ الكتِفِ والعضُدِ، ووقَفَت خلْفَه على بابِ حُجرَتِها؛ لتَنظُرَ إلى رَقصِ الحَبشةِ ولَعبِهم، وهي ساتِرةٌ لباقي جَسَدِها خلْفَ جسَدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وظلَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واقِفًا لها حتَّى مَلَّتْ مِن المُشاهَدةِ وانصَرَفَت عنها، والمُرادُ بالرَّقصِ ما جاء في رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «وكان يوْمَ عِيدٍ يَلعَبُ السُّودانُ بالدَّرَقِ والحِرابِ»، والدَّرَقُ هي نَوعٌ مِن التُّروسِ، تُتَّخذُ مِن الجُلودِ ليْس فيه خَشَبٌ، و«الحِرابُ» جَمعُ حَرْبةٍ، وهي سِلاحٌ يُتَّخذُ في الحَربِ، قَدْرُه دونَ الرُّمحِ الكامِلِ، وليْس بعَريضِ النَّصلِ، وليْس المُرادُ الرَّقصَ الخَليعَ المَنهيَّ عنه. ثمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَئذٍ: «لتَعلَمَ يَهودُ أنَّ في دِينِنا فُسْحةً»؛ أي: أنَّ في الإسْلامِ اللَّهوَ المُباحَ كما حدَّدَه الشَّرعُ، وأنَّ في الإسْلامِ فُسْحةً بما لا يُخِلُّ بثَوابتِ الدِّينِ؛ وذلك لأنَّ اليَهودَ كانت لهم أعْيادٌ وأيَّامٌ يَلْهَونَ فيها ويَلْعَبونَ، فذكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك ليُبيِّنَ سَماحةَ هذا الدِّينِ، وأنَّه ليْس تَشدُّدًا، ولكنَّه وضَع الضَّوابطَ الشَّرعيَّةَ للَّهوِ واللَّعبِ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُرسِلَ بدِينِ «الحَنيفيَّةِ السَّمحةِ»، والحَنيفيَّةُ عندَ العرَبِ: دينُ إبْراهيمَ عليه السَّلامُ، والمَقْصودُ أنَّه أُرسِلَ بالدِّينِ السَّهلِ في أُصولِه وفُروعِه، فكلُّها وسَطٌ لا إفْراطَ ولا تَفْريطَ، وتُحصِّلُ جَميعَ المَصالحِ، وتَدْرأُ جَميعَ المَفاسِدِ.
وفي الحَديثِ: الانْبِساطُ والانْشِراحُ والتَّوْسِعةُ على الأهْلِ والعِيالِ في أيَّامِ الأعْيادِ، بما يَحصُلُ به التَّرْويحُ عنِ النَّفْسِ، وأنَّه يُغتَفرُ في العيدِ ما لا يُغتَفرُ في غَيرِه.