"‌‌باب: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ما شاء أقامه منها وما شاء أن يزيغه أزاغه"134

السنة لابن ابي عاصم

"‌‌باب: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ما شاء أقامه منها وما شاء أن يزيغه أزاغه"134

ثنا عمر بن الخطاب ثنا أبو صالح ثنا الليث ثنا يحيى بن سعيد عن خالد بن أبي عمران حدثني أبو عياش عن أبي هريرة قال: قال رسول الله:
"إنما قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن"

 كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحسنَ الناسِ تَعليمًا وبيانًا، ومِن ذلك: أنه كان يُقرِّبُ المعانِيَ للنَّاسِ، ويَضرِبُ لهم الأمثالَ؛ حتَّى تكونَ أوقَعَ في الفُهمِ، وفي هذا الحديثِ يقولُ أبو موسى الأشعريُّ رضِيَ اللهُ عنه: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "مثَلُ القلْبِ"، أي: في تقلُّبِه وتغيُّرِه، "مثَلُ الرِّيشةِ تُقَلِّبُها الرِّياحُ"، والمُرادُ، أي: كالرِّيشةِ في وزْنِها وخِفَّتِها مع سُرعةِ استجابتِها لأيِّ رِيحٍ تمُرُّ بها، "بفَلاةٍ" وفي روايةٍ: "بأرضٍ فَلاةٍ"، أي: بأرضٍ خاليةٍ مِن العُمرانِ؛ إذِ الرِّياحُ فيها أكثَرُ جريًا وأسرَعُ في التَّأثيرِ، والمُرادُ: أنَّ القلْبَ في سُرعةِ تقلُّبِه يحكُمُه الابتلاءُ بخواطِرِه مرَّةً إلى باطلٍ، ومرَّةً إلى حقٍّ، وتارةً إلى خيرٍ، وتارةً إلى شرٍّ، ولذا جمَعَ "الرِّياحَ"؛ إشارةً إلى أنَّ وارِداتِ القلْبِ كثيرةٌ. قيل: وإنَّما كان كثيرَ التَّقلُّبِ؛ لأنَّ مَنزِلَه الإلهامُ والوسوسةُ؛ فهما أبدًا يَقْرَعانِه ويُلقِّنانِه، والقلْبُ مُتحيِّرٌ بين الهوى والهُدى، فهو دائمًا بين مُتناقضانِ ومُتحاربانِ، والخواطِرُ لا تَنقطِعُ عنه، والآفاتُ إليه أسرَعُ مِن جميعِ الأعضاءِ، فهو إلى الانقلابِ أقرَبُ. وكثيرًا ما كان يَدْعو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ربَّه بأنْ يُثَبِّتَ قلْبَه؛ ففي حديثٍ للتِّرمذيِّ وابنِ ماجَه عن أنسٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكْثِرُ أنْ يقولَ: «يا مُقلِّبَ القُلوبِ، ثبِّتْ قَلْبي على دِينِك»، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، آمنَّا بك وبما جئْتَ به، فهل تخافُ علينا؟! قال: «نعمْ، إنَّ القُلوبَ بينَ إصْبَعَينِ مِن أصابِعِ اللهِ يُقلِّبُها كيف يشاءُ».

وفي الحديثِ: بيانُ ضعْفِ القلْبِ، وأنَّه حائرٌ بين الهوى الدَّاعي إلى الضَّلالِ، وبينَ الهُدى الدَّاعي إلى طريقِ الحقِّ والخيرِ. 

وفيه: التنبيهُ إلى الخوفِ مِن تقلُّبِ أحوالِ القلْبِ؛ وأنَّه على المرءِ أن يُسارِعَ إلى الخيراتِ؛ خشيةَ تقلُّبِ قَلْبِه.