ذكر ما يستحب للمرء أن يقوم في أداء الشكر لله جل وعلا بإتيان الطاعات بأعضائه دون الذكر باللسان وحده41
صحيح ابن حبان

أخبرنا الفضل بن الحباب، حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان، حدثنا زياد بن علاقة، قال:
سمعت المغيرة بن شعبة، يقول: قام النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا تورمت قدماه، فقيل له: يا رسول الله، أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدا شكورا" 1. [5: 47]
كان السَّلَفُ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ يَحرِصونَ على مَعرِفةِ هَدْيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جَميعِ أحوالِه، ولا سيَّما الأُمورِ التي لا يَطَّلعُ عليها إلَّا زَوجاتُه وأهلُ بَيتِه، كقيامِه لصَلاةِ اللَّيلِ وحالِه مَعَ أهلِه ونَحوِ ذلك، ومِن ذلك يَقولُ التَّابعيُّ عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: دَخَلتُ أنا وعُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ وهو أحَدُ التَّابِعينَ، على عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. دَخَلوا عِندَها لزيارَتِها وسُؤالِها.
فقالت عائِشةُ لعُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ: قد آنَ لَك أن تَزورَنا! أي: الآنَ ذَكَرتَ أن تَزورَنا! كَأنَّها تُعاتِبُه في عَدَمِ زيارَتِه لَها. فقال عُبَيدٌ: أقولُ يا أُمَّه كما قال الأوَّلُ: زُرْ غِبًّا تَزدَدْ حُبًّا! والغِبُّ: أصلُه أن تَرِدَ الإبِلُ الماءَ يَومًا وتدَعَه يَومًا، فالمُرادُ: زُر أخاك وقتًا بَعدَ وقتٍ.
تَزدَدْ عِندَه حُبًّا؛ وذلك لأنَّ الإكثارَ مِنَ الزِّيارةِ يُمِلُّ، والإقلالَ مِنها مُخِلٌّ. فقالت عائِشةُ: دَعونا مِن رَطانَتِكُم هذه! تَقصِدُ الكَلامَ المَسجوعَ، فالزِّيارةُ مَشروعةٌ لِما فيها مِنَ التَّوادِّ والتَّحابِّ بَينَ الإخوانِ. وكَثرةُ الزِّيارةِ لا تَنقُصُ المَودَّةَ، وقَولُه: زُرْ غِبًّا تَزدَدْ حُبًّا، مَخصوصٌ بمَن يَزورُ للطَّمَعِ، وأنَّ النَّهيَ عن كَثرةِ مُخالَطةِ النَّاسِ مَخصوصٌ بمَن يَخشى الفِتنةَ أوِ الضَّرَرَ، ثُمَّ قال عُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ لعائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها يَسألُها: أخبرينا بأعجَبِ شَيءٍ رَأيتِه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم! فسَكَتَت عائِشةُ تُفكِّرُ في أحوالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكُلُّها عَجيبةٌ وصالحةٌ للاقتِداءِ بها؛ ففي رِوايةٍ أنَّها قالت: كُلُّ أمرِه كان عَجَبًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! ثُمَّ قالت: لمَّا كان لَيلةً مِنَ اللَّيالي، أي: التي كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَها في لَيلَتِها.
قال لَها: يا عائِشةُ، ذَريني، أي: اترُكيني أتَعَبَّدُ اللَّيلةَ لرَبِّي، أي: بالصَّلاةِ وقيامِ اللَّيلِ. فقالت عائِشةُ: واللهِ إنِّي لأُحِبُّ قُربَك، أي: أُحِبُّ حينَ تَكونُ بجِواري، وأحِبُّ ما سَرَّك، أي: أحِبُّ كُلَّ أمرٍ يَجعَلُك مَسرورًا.
قالت: فقامَ رَسولُ اللهِ فتَطَهَّر، أي: تَوضَّأ، ثُمَّ قامَ يُصَلِّي، أي: قيامَ اللَّيلِ، فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ حِجرَه، أي: خَضبَ طَرَفَ ثَوبِه، ثُمَّ بَكى فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ لحيَتَه، أي: خَضبَها بالدُّموعِ، ثُمَّ بَكى فلَم يَزَل يَبكي حَتَّى بَلَّ الأرضَ، أي: حَتَّى نَزَلَت دُموعُه على الأرضِ! وهذا كِنايةٌ عن كَثرةِ الدُّموعِ والخُشوعِ والخَوفِ مِنَ اللهِ تعالى. ثُمَّ جاءَه بلالٌ رَضِيَ اللهُ عنه يُؤذِنُه بالصَّلاةِ، أي: يُعلِمُه بصَلاةِ الفَجرِ حَتَّى يَخرُجَ إليها، فلَمَّا رَأى بلالٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَبكي، قال: يا رَسولَ اللهِ، لِمَ تَبكي وقد غَفرَ اللهُ لَك ما تقدَّم وما تَأخَّرَ؟! وكَأنَّ بلالًا ظَنَّ أنَّ سَبَبَ تَحَمُّلِه المَشَقَّةَ في العِبادةِ إمَّا الخَوفُ مِنَ الذَّنبِ أو رَجاءُ المَغفِرةِ، ومَن تحَقَّق أنَّه غُفرَ له لا يَحتاجُ إلى ذلك، فأفادَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ لَها سَبَبًا آخَرَ أتَمَّ وأكمَلَ، وهو الشُّكرُ على التَّأهُّلِ لَها مَعَ المَغفِرةِ وإجزالِ النِّعمةِ، فقال: أفلا أكونُ عَبدًا شَكورًا؟! أي: بنِعمةِ اللهِ عليَّ بغُفرانِ ذُنوبي وسائِرِ ما أنعَمَ اللَّهُ عليَّ، فمَن عَظُمَت عليه نِعَمُ اللهِ وجَبَ عليه أن يَتَلَقَّاها بعَظيمِ الشُّكرِ، ثُمَّ قال: لَقد نَزَلَت عليَّ اللَّيلةَ آيةٌ وَيلٌ لمَن قَرَأها ولَم يَتَفكَّرْ فيها، أي: لَم يَتَأمَّلْ في مَعانيها وما تُرشِدُ إليه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191] الآيةُ كُلُّها.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ السُّؤالِ عن أحوالِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الخاصَّةِ.
وفيه حِرصُ التَّابعينَ على مَعرِفةِ هَديِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وفيه مِن حُسنِ العِشرةِ أن يَستَأذِنَ كُلٌّ مِنَ الزَّوجَينِ الآخَرَ إذا أرادَ أن يَنشَغِلَ بأمرٍ مُهمٍّ للتَّعَبُّدِ أوِ الذِّكرِ ونَحوِ ذلك.
وفيه بَيانُ كَيف كان حالُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قيامِ اللَّيلِ.
وفيه إعلامُ المُؤَذِّنِ للإمامِ بقُربِ إقامةِ الصَّلاةِ.
وفيه أنَّ شُكرَ النِّعَمِ يَكونُ بكَثرةِ طاعةِ اللَّهِ والتَّقَرُّبِ إليه.
وفيه مَشروعيَّةُ أخذِ الإنسانِ على نَفسِه بالشِّدَّةِ في العِبادةِ ما لَم يُؤَدِّ ذلك به إلى المَلَلِ والسَّآمةِ.
وفيه الوعيدُ لمَن قَرَأ قَولَه تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191]. ولَم يَتَفكَّرْ فيها .