مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه 199
مسند أحمد

لمَّا هاجَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المَدينةِ واستَقَرَّ فيها بَنى دَولةَ الإسلامِ، وبَنى المَسجِدَ وآخى بَينَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وبَدَأت حَياةُ الكِفاحِ والجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، فكانت غَزوةُ بَدرٍ في السَّنةِ الثَّانيةِ للهِجرةِ، وانتَصَرَ فيها المُسلِمونَ انتِصارًا عَظيمًا، سَمَّاه اللهُ تعالى بيَومِ الفُرقانِ، وأذَلَّ اللهُ فيه كُفَّارَ قُرَيشٍ وقَتَل صَناديدَهم
وفي هذا الحَديثِ يَحكي عَليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن قِصَّةِ غَزوةِ بَدرٍ، وكَيف كانت، فيَقولُ: لمَّا قَدِمنا المَدينةَ، أي: عِندَما هاجَروا مِن مَكَّةَ إلى المَدينةِ ووصَلوا إليها، أصَبنا مِن ثِمارِها، فاجتَوَيناها، أي: أصابَهمُ الجَوى: وهو المَرَضُ وداءُ الجَوفِ إذا تَطاوَلَ، والمَعنى: أنَّهم وجَدوها غَيرَ مُوافِقةٍ لطِباعِهم، وكَرِهوا المُقامَ بها، يُقالُ: اجتَوَيتُ البَلَدَ: إذا كَرِهتَ المُقامَ فيه، وأصابَنا بها وَعكٌ. وهو الحُمَّى والألَمُ يَجِدُه الإنسانُ مِن شِدَّةِ التَّعَبِ، أي: ولذلك أُصيبوا بالحُمَّى، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَخَبَّرُ عن بَدرٍ، أي: يَسألُ عنِ الأخبارِ ليتعَرَّفَها، والمَعنى: أنَّه كان يَسألُ عن أخبارِ المُشرِكينَ هَل وصَلوا إلى بَدرٍ، وهو مَكانُ بئرٍ هناكَ، فلمَّا بَلَغَنا أنَّ المُشرِكينَ قد أقبَلوا، أي: قَدِموا مِن مَكَّةَ قادِمينَ إلى بَدرٍ، سارَ، أي: خَرَجَ وذَهَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بَدرٍ، وهو مَكانُ بئرِ الماءِ، فسَبَقَنا المُشرِكونَ إليها، أي: أنَّ المُسلِمينَ وجَدوا المُشرِكينَ سَبَقوهم إلى بَدرٍ، ويُروى الحَديثُ وهو الأظهَرُ- (فسَبَقْنا المُشرِكينَ إليها) أي: سَبَق المُسلِمونَ ووصَلوا قَبلَ المُشرِكينَ، فوجَدنا فيها رَجُلَينِ مِنهم، أي: عِندَما وصَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن مَعَه مِنَ الصَّحابةِ إلى بَدرٍ وجَدوا رَجُلينِ مِنَ المُشرِكينَ قد كانوا أرسَلوهم ليَستَطلِعوا الأخبارَ والمَكانَ: رَجُلًا مِن قُرَيشٍ، ومَولًى لعُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، فأمَّا القُرَشيُّ فانفَلَتَ، أي: هَرَبَ مِنَّا، وأمَّا مَولى عُقبةَ فأخَذناه، أي: أمسَكناه، فجَعَلنا نَقولُ له: كَم القَومُ؟ أي: أخَذنا نَسألُه عن عَدَدِ كُفَّارِ قُرَيشٍ، فيَقولُ الرَّجُلُ: هم -واللهِ- كَثيرٌ عَدَدُهم، أي: أعدادُهم كَثيرةٌ لا أعرِفُ كم هم، شَديدٌ بَأسُهم، أي: أصحابُ قوَّةٍ وشِدَّةٍ، فجَعَل المُسلِمونَ إذ قال ذلك ضَرَبوه، أي: إذا أخبَرَهم بأنَّ عَدَدَ كُفَّارِ قُرَيشٍ كَثيرٌ، وأنَّ بأسَهم شَديدٌ، ضَرَبوه، حتَّى انتَهَوا به إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: حتَّى قَدِموا به ووصَلوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَمِ القَومُ؟ أي: كُفَّارُ قُرَيشٍ، فقال الرَّجُلُ: هم -واللهِ- كَثيرٌ عَدَدُهم، شَديدٌ بَأسُهم، أي: نَفسُ ما أخبَرَ به الصَّحابةَ، فجَهدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُخبرَه كَم هم، فأبى، أي: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حاول مَعَ هذا الرَّجُلِ وجَدَّ واجتَهَدَ أن يَعرِفَ مِنه كَم عَدَدُ المُشرِكينَ، لكِنَّ الرَّجُلَ امتَنَعَ مِنَ الإجابةِ، ففَكَّر الرَّسولُ بطَريقةٍ أُخرى حتَّى يَعرِفَ عَدَد المُشرِكينَ، فقال للرَّجُلِ: كَم يَنحَرونَ مِنَ الجُزُرِ؟ جَمعُ جَزورٍ، وهو البَعيرُ ذَكَرًا كان أو أُنثى، أي: كَم عَدَدُ الإبِلِ التي يَنحَرونَها؟ فقال الرَّجُلُ: عَشرًا كُلَّ يَومٍ، أي: أنَّهم كُلَّ يَومٍ يَنحَرونَ عَشرًا مِنَ الإبِلِ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: القَومُ ألفٌ، كُلُّ جَزورٍ لمِئةٍ وتَبَعِها، أي: أتباعِ المِئةِ، والمَعنى: أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استَنبَطَ مِن عَدَدِ نَحرِهم للبَعيرِ عَدَدَ المُشرِكينَ، وذلك أنَّ كُلَّ بَعيرٍ يكفي مِئةَ شَخصٍ، وإذا كانوا يَنحَرونَ في اليَومِ عَشرةَ أبعِرةٍ، فإنَّ عَدَدَهم إذَن ألفٌ. يَقولُ عليٌّ: ثُمَّ إنَّه أصابَنا مِنَ اللَّيلِ طَشٌّ مِن مَطَرٍ، أي: مَطَرٌ ضَعيفٌ قَليلٌ، فانطَلقنا تَحتَ الشَّجَرِ والحَجَفِ. جَمعُ حَجَفةٍ، وهيَ التُّرسُ الذي يُتَّقى به في الحَربِ، نَستَظِلُّ تَحتَها مِنَ المَطَرِ، أي: عِندَما نَزَل المَطَرُ في تلك اللَّيلةِ ذَهَبنا نَتَّقي مِنَ المَطَرِ تَحتَ الأشجارِ والتُّروسِ، وباتَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: ظَلَّ في تلك اللَّيلةِ، قائِمًا يَدعو رَبَّه عَزَّ وجَلَّ، ويَقولُ: اللهُمَّ إنَّك إن تُهلِكْ، أي: تُفْنِ، هذه الفِئةَ، أي: جَماعةَ الصَّحابةِ والقَومَ المُقاتِلينَ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لا تُعبَدْ، أي: فإنَّك سُبحانَك لن تُعبَدَ. يَقولُ عَليٌّ: فلمَّا أن طَلعَ الفجرُ نادى، أي: نادى مُنادي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِلًا: الصَّلاةَ، عِبادَ اللهِ، أي: أقبِلوا يا عِبادَ اللهِ وهَلمُّوا إلى صَلاةِ الفَجرِ، فجاءَ النَّاسُ مِن تَحتِ الشَّجَرِ والحَجَفِ، فصَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحَرَّضَ على القِتالِ، أي: حَثَّ الصَّحابةَ وشَجَّعَهم على القِتالِ، ثُمَّ قال لهم: إنَّ جَمعَ قُرَيشٍ تَحتَ هذه الضِّلَعِ الحَمراءِ مِنَ الجَبَلِ. وهو جُبَيلٌ مُنفرِدٌ صَغيرٌ ليسَ بمُنقادٍ، يُشَبَّهُ بالضِّلعِ، أي: تَحتَ هذا المَكانِ، يَقولُ عليٌّ: فلمَّا دَنا القَومُ مِنَّا، أي: المُشرِكونَ، وصافَفْناهم، أي: واقَفْناهم وقُمنا حِذاءَهم وأصبَحنا نَحنُ وهم صُفوفًا مُتَراصِّينَ، كُلُّ جَيشٍ يُقابِلُ الآخَرَ، إذا رَجُلٌ مِنهم، أي: مِنَ المُشرِكينَ، على جَمَلٍ له أحمرَ، يَسيرُ في القَومِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا عَليُّ، نادِ لي حَمزةَ، أي: لأسألَه مَن صاحِبُ الجَمَلِ الأحمَرِ، وكان حَمزةُ أقرَبَهم مِنَ المُشرِكينَ، أي: أقرَبَ المُسلمينَ مِنَ المُشرِكينَ؛ ولذلك عَرَف مَن صاحِبُ الجَمَلِ، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن صاحِبُ الجَمَلِ الأحمَرِ؟ وماذا يَقولُ لهم؟ أي: أخبِرْني يا حَمزةُ مَن يَكونُ صاحِبَ الجَمَلِ الأحمَرِ، وبماذا يُنادي؟ ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إن يَكُنْ في القَومِ، أي: المُشرِكينَ، أحَدٌ يَأمُرُ بخَيرٍ فعَسى أن يَكونَ صاحِبَ الجَمَلِ الأحمَرِ، أي: أنَّه إذا وُجِدَ فيهم شَخصٌ ناصِحٌ لهم ويَأمُرُهم بما هو خَيرٌ لهم فإنَّه صاحِبُ الجَمَلِ الأحمَرِ، فلمَّا جاءَ حَمزةُ قال: إنَّ صاحِبَ الجَمَلِ الأحمَرِ هو عُتبةُ بنُ رَبيعةَ، وكان مِن ساداتِ قُرَيشٍ، وهو يَنهى عنِ القِتالِ، أي: أنَّه يُنادي في القَومِ ويَنهاهم عنِ الحَربِ، ويَقولُ لهم: يا قَومِ، إنِّي أرى قَومًا مُستَميتينَ. والمُستَميتُ هو الشُّجاعُ الطَّالبُ الذي يُقاتِلُ على المَوتِ، ويَقصِدُ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه، وأنَّهم سَوف يُقاتِلونَكُم أشَدَّ المُقاتَلةِ حتَّى لو أدَّى بهم ذلك إلى المَوتِ، لا تَصِلونَ إليهم وفيكُم خَيرٌ، أي: لن تَستَطيعوا أن تَصِلوا إليهم وفيكُم بَقيَّةٌ، وفي رِوايةٍ أُخرى: واللهِ ما أظُنُّ أن تَصِلوا إليهم حتَّى تَهلِكوا، يا قَومِ اعصِبوها اليَومَ برَأسي، أي: اعصِبوا السُّبَّةَ التي تَلحَقُكُم بتَركِ الحَربِ والجُنوحِ إلى السِّلمِ، وإنَّما أضمَرَ السُّبَّةَ اعتِمادًا على مَعرِفةِ المُخاطَبينَ، أيِ: اقرِنوا هذه الحالةَ بي وانسُبوها إليَّ وإن كانت ذَميمةً، وقولوا: جَبُنَ عُتبةُ بنُ رَبيعةَ، أي: خاف، وقد عَلِمتُم أنِّي لستُ بأجبَنِكُم، أي: مَعَ أنَّكُم تَعلمونَ شِدَّتي وأنِّي لستُ بجَبانٍ، ولكِن هذا اليَومَ أنا لكُم ناصِحٌ، فاترُكوا القِتالَ وارجِعوا، فسَمِعَ ذلك أبو جَهلٍ، أي: سَمِعَ أبو جَهلٍ كَلامَ عُتبةَ، فقال له: أنتَ تَقولُ هذا؟! أي: مُستَنكِرًا عليه قَولَه، وكَيف أنَّه هو الذي يَقولُ ذلك، واللهِ لو غَيرُك يَقولُ هذا لأعضَضْتُه، أي: لو غَيرُك يا عُتبةُ قال هذا الكَلامَ لقُلتُ له: اعضَضْ أَيرَ أبيك! أي: ذَكَرَ أبيك، قد مَلأَت رِئَتُك جَوفَك رُعبًا. الرِّئةُ: مَوضِعُ النَّفَسِ مِنَ الحَيَوانِ تَنتَفِخُ عِندَ الخَوفِ، والرُّعبُ: الخَوفُ، والمَعنى: إنَّما قُلتُ ذلك؛ لأنَّ صَدرَك وقَلبَك قدِ امتَلأ خَوفًا مِن مُحَمَّدٍ وأصحابِه، فرَدَّ عُتبةُ على أبي جَهلٍ، وقال: إيَّايَ تُعَيِّرُ، أي: تَسُبُّ، يا مُصَفِّرَ اسْتِه؟! والاستُ: الدُّبُرُ، والمَعنى: أنَّه كان يُزَعفِرُ ويَصبُغُ اسْتَه بالصُّفرةِ. وقيل: هيَ كَلمةٌ تُقالُ للمُتَنَعِّمِ المُترَفِ الذي لم تُحَنِّكْه التَّجارِبُ والشَّدائِدُ، وقيل: أرادَ يا مُضَرِّطَ نَفسِه، مِنَ الصَّفيرِ، وهو الصَّوتُ بالفَمِ والشَّفَتَينِ، كَأنَّه قال: يا ضَرَّاطُ. نَسَبَه إلى الجُبنِ والخَورِ. سَتَعلمُ اليَومَ أيُّنا الجَبانُ؟ أي: في هذا اليَومِ سَيُعرَفُ مَنِ الجَبانُ مِنَّا أنا أو أنتَ؟! ولعَلَّ كَلمةَ أبي جَهلٍ أثارَتِ الأنَفةَ والحَميَّةَ عِندَ عُتبةَ؛ فلهذا تقَدَّم للقِتالِ، وكان أحَدَ المُبارِزينَ قَبلَ بَدءِ المَعرَكةِ، يَقولُ عليٌّ: فبَرَزَ، أي: تقَدَّم عُتبةُ وأخوه شَيبةُ وابنُه الوليدُ حَميَّةً، أي: أنَفةً، أن يُقالَ لهم جُبَناءُ بَعدَ كَلامِ أبي جَهلٍ؛ ولهذا كان جَميعُ المُبارِزينَ مِن أُسرَتِه: عُتبةُ وأخوه وابنُه، فقالوا: مَن يُبارِزُ؟ فخَرَجَ فِتيةٌ مِنَ الأنصارِ سِتَّةٌ، أي: تقَدَّم لمُبارَزَتِهم سِتَّةُ شَبابٍ مِنَ الأنصارِ. فقال عُتبةُ: لا نُريدُ هؤلاء، ولكِن يُبارِزُنا مِن بَني عَمِّنا مِن بَني عَبدِ المُطَّلِبِ، أي: نُريدُ أن يَكونَ المُبارِزونَ مِن أولادِ عُمومَتِنا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُمْ يا عَليُّ، وقُمْ يا حَمزةُ، وقُمْ يا عُبَيدةُ بنَ الحارِثِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ. وهؤلاء كُلُّهم مِن بَني عَبدِ المُطَّلِبِ، فعَليٌّ هو عَليُّ بنُ أبي طالِبِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، وهو ابنُ عَمِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحَمزةُ هو ابنُ عبدِ المُطَّلِبِ، عَمُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعُبَيدةُ بنُ الحارِثِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، ابنُ عَمِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقَتَل اللهُ تعالى عُتبةَ وشَيبةَ ابنَي رَبيعةَ -أي: مَكَّنَ اللهُ تعالى عَليًّا وحَمزةَ مِن قَتلِ عُتبةَ وشَيبةَ- والوليدَ بنَ عُتبةَ، وجُرِحَ عُبَيدةُ بنُ الحارِثِ. وفي رِوايةٍ توضِّحُ ذلك؛ يَقولُ عليٌّ: فأقبَل حَمزةُ إلى عُتبةَ، وأقبَلتُ إلى شَيبةَ، وأقبَل عُبَيدةُ إلى الوليدِ، فلم يُلبِثْ حَمزةُ صاحِبَه أن فرَغَ مِنه، أي: قَتَله، ولم أُلبِثْ صاحِبي، أي: حتَّى قَتَلتُه، واختَلف بَينَ الوليدِ وعُبَيدةَ ضَربَتانِ وانتَحَرَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما صاحِبَه، فأقبَلتُ أنا وحَمزةُ إليهما ففرَغنا مِنَ الوليدِ، أي: قَتَلناه، واحتَمَلنا عُبَيدةَ، ثُمَّ بَعدَ ذلك ماتَ عُبَيدةُ عِندَ رُجوعِهم بَعدَ المَعرَكةِ. ثُمَّ بَدَأتِ المَعرَكةُ واشتَدَّ القِتالُ بَينَ الطَّرَفينِ، ونَصَرَ اللهُ المُسلمينَ على المُشرِكينَ وأيَّدَهم بالمَلائِكةِ؛ فقد نَزَلتِ المَلائِكةُ تُقاتِلُ مَعَ المُسلمينَ، يَقول عليٌّ: فقَتَلنا مِنهم، أي: مِنَ المُشرِكينَ، سَبعينَ، وأسَرنا سَبعينَ، أي: سَبعينَ أسيرًا. فجاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنصارِ قَصيرٌ -أي: قَصيرُ القامةِ- بالعَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ أسيرًا، أي: أنَّ هذا الأنصاريَّ أمسَكَ بالعَبَّاسِ عَمِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أسيرًا، وكان العَبَّاسُ مُسلِمًا، ولكِنَّه ظَلَّ مَعَ المُشرِكينَ وخَرَجَ مَعَهم في غَزوةِ بَدرٍ، فقال العَبَّاسُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ هذا –واللهِ- ما أسَرَني، أي: إنَّ هذا الرَّجُلَ القَصيرَ ليسَ هو الذي أسَرَني، وهو لا يَقدِرُ على أسري، وإنَّما أسَرَني رَجُلٌ أجلَحُ! والأجلحُ: هو الذي انحَسَرَ الشَّعرُ عن جانِبَي رَأسِه، مِن أحسَنِ النَّاسِ وَجهًا، أي: رَجُلٌ حَسَنُ الوَجهِ، وهو على فرَسٍ أبلَقَ، وهو ما كان فيه سَوادٌ وبَياضٌ، وقيل: هو الذي ارتَفعَ التَّحجيلُ إلى فَخِذَيه، ما أراه في القَومِ! أي: ليسَ هو مَوجودًا بَينَكُم؛ فإنِّي لم أرَه بَعدَ ذلك، فقال الأنصاريُّ: أنا أسَرْتُه يا رَسولَ اللهِ، أي: أصَرَّ الأنصاريُّ على أنَّه هو الذي أمسَكَ بالعَبَّاسِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للأنصاريِّ مُبَيِّنًا حَقيقةَ الأمرِ: اسكُتْ؛ فقد أيَّدَك اللهُ تعالى بمَلَكٍ كَريمٍ، أي: أنَّ الذي أسَرَه حَقيقةً هو المَلَكُ، وظاهرًا هو الرَّجُلُ القَصيرُ؛ يَقولُ عليٌّ: فأسَرنا كَثيرًا، وأسَرنا مِن بَني عَبدِ المُطَّلِبِ العَبَّاسَ وعَقيلًا ونَوفَلَ بنَ الحارِثِ، أي: كان هؤلاء الثَّلاثةُ مِن الأسرى في غَزوةِ بَدرٍ
وفي الحَديثِ استِطلاعُ القائِدِ وسُؤالُه عنِ العَدوِّ قَبلَ بَدءِ المَعرَكةِ
وفيه مَشروعيَّةُ ضَربِ الأسيرِ عِندَ استِجوابِه عن حالِ العَدوِّ
وفيه حُنكةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفِطنَتُه في كَيفيَّةِ استِخراجِ المَعلوماتِ مِنَ الأسيرِ
وفيه بَيانُ فَضلِ اللهِ على المُسلمينَ في غَزوةِ بَدرٍ؛ حَيثُ أنزَل عليهمُ المَطَرَ
وفيه شِدَّةُ تَضَرُّعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرَبِّه في غَزوةِ بَدرٍ وبَقائِه طَوالَ اللَّيلِ يَدعو
وفيه مَشروعيَّةُ صَلاةِ الجَماعةِ في السَّفرِ
وفيه تَحريضُ الإمامِ للجُندِ بالقِتالِ وحَثُّهم عليه
وفيه فِراسةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُتبةَ بنِ رَبيعةَ، وأنَّه كان ناصِحًا لقَومِه
وفيه ما كان عليه عُتبةُ مِنَ البَصيرةِ والحِكمةِ في نُصحِه لقَومِه
وفيه خُبثُ عَدوِّ اللهِ أبي جَهلٍ واستِحثاثُه للمُشرِكينَ على القِتالِ
وفيه مَشروعيَّةُ المُبارَزةِ في الجِهادِ قَبلَ بَدءِ المَعرَكةِ
وفيه بَيانُ الأشخاصِ الذينَ تَبارَزوا في غَزوةِ بَدرٍ مِنَ المُسلمينَ والمُشرِكينَ
وفيه انتِصارُ المُسلمينَ في غَزوةِ بَدرٍ
وفيه بَيانُ عَددِ مَن قُتِل في غَزوةِ بَدرٍ وعَدَدِ مَن أُسِرَ مِنَ المُشرِكينَ
وفيه نُزولُ المَلائِكةِ للقِتالِ مَعَ المُسلِمينَ في غَزوةِ بَدرٍ
وفيه أنَّ العَبَّاسَ وعَقيلَ بنَ أبي طالبٍ ونَوفَلَ بنَ الحارِثِ كانوا مِن أسرى بَدرٍ