"باب ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على مثل البيضاء"

ثنا محمد بن عوف، ثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، أن [ص:27] ضمرة بن حبيب، حدثه أن عبد الرحمن بن عمرو، حدثه أنه سمع العرباض بن سارية، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك» .
وفي هذا الحديث يقول عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وحجر بن حجر: "أتينا العرباض بن سارية"، أي: جئنا إليه، "وهو ممن نزل فيه" هذه الآية: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه} [التوبة: 92]، أي: لا أجد ولا أملك من المراكب من الفرس والإبل ونحوها المعدة للجهاد؛ لأعطيه لكم لتجاهدوا عليها، قالوا: "فسلمنا"، أي: ألقينا عليه السلام، وقلنا: "أتيناك زائرين وعائدين"؛ من العيادة للمريض، "ومقتبسين"، أي: محصلين نور العلم منك، فقال العرباض: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا"، أي: بوجهه، "فوعظنا موعظة بليغة"، أي: حدثنا وذكرنا بقول موجز وفيه معان كثيرة، "ذرفت منها العيون"، أي: سالت منها الدموع، "ووجلت منها القلوب"، أي: خافت ورهبت.
قال: "فقال قائل"؛ من الحاضرين: "يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع"، أي: موعظة مسافر عند الوداع، "فماذا تعهد إلينا؟"، أي: بماذا توصي إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله"؛ وذلك بفعل الواجبات وترك المحرمات، "والسمع والطاعة"، أي: للأمراء، "وإن عبدا حبشيا"، أي: وإن كان هذا الأمير أو الوالي عبدا حبشيا؛ "فإنه من يعش منكم بعدي"، أي: بعد موتي، "فسيرى اختلافا كثيرا"؛ في الدين، وغيره، ثم أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنفع علاج عند وقوع الاختلاف الكثير، فقال: "فعليكم بسنتي"، أي: طريقتي ونهجي، "وسنة الخلفاء المهديين الراشدين"، أي: الذين هداهم الله وأرشدهم إلى الحق، والمقصود بهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، "تمسكوا بها"، أي: بسنتي وسنة الخلفاء، وأفرد لفظ (بها) مع أنها تعود على اثنتين؛ لأنهما كشيء واحد، "وعضوا عليها بالنواجذ"، أي: آخر الأضراس؛ يعني بذلك الجد في لزوم السنة والتمسك بها، "وإياكم"، أي: احذروا واجتنبوا، "ومحدثات الأمور"، أي: الأمور التي تحدث بعد ذلك وتخالف أصل الدين؛ "فإن كل محدثة" في دين الله وشرعه، "بدعة"، أي: طريقة مخترعة في الدين، "وكل بدعة ضلالة"، أي: موجبة للضلالة والغواية، ويضل بها صاحبها.
وفي الحديث: الحث والتأكيد الشديد على التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين، والنهي عن الابتداع في الدين والتحذير الشديد من ذلك