‌‌ذكر ركوب المصطفى صلى الله عليه وسلم البراق وإتيانه عليه بيت المقدس من مكة في بعض الليل1

صحيح ابن حبان

‌‌ذكر ركوب المصطفى صلى الله عليه وسلم البراق وإتيانه عليه بيت المقدس من مكة في بعض الليل1

أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى حدثنا خلف بن هشام البزار حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: أتيت حذيفة فقال: من أنت يا أصلع؟ قلت: أنا زر بن حبيش حدثني بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس حين أسري به قال: "من أخبرك به يا أصلع؟ قلت: القرآن قال: القرآن؟ فقرأت: {سبحان الذي أسرى بعبده من الليل} وهكذا هي قراءة عبد الله1 إلى قوله: {إنه هو السميع البصير} فقال: هل تراه صلى فيه؟ قلت: لا قال: "إنه أتي بدابة" قال حماد وصفها عاصم لا أحفظ صفتها قال: فحمله عليها جبريل أحدهما رديف صاحبه فانطلق معه من ليلته حتى أتى بيت المقدس فأري ما في السماوات وما في الأرض ثم رجعا عودهما على بدئهما فلم يصل فيه ولو صلى لكانت سنة2. [2:3]

كان التَّابعون رَحمةُ اللهِ عليهم يَحرِصون كلَّ الحِرصِ على تلَقِّي العِلمِ عن صَحابةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، ويُعارِضونهم بما عِندَهم مِن علمٍ؛ حتَّى يُبيِّنوا لهم الصَّوابَ مِن الخطأِ، وفي هذا الحديثِ يقولُ التابعيُّ الجليلُ زِرُّ بنُ حُبيشٍ: "قلتُ لحُذيفةَ بنِ اليمانِ: أصَلَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في بيتِ المقدِسِ؟"، أي: عندما أُسري به، فقال حذيفةُ رَضِي اللهُ عَنه: "لا"، أي: لم يُصَلِّ فيه، قلتُ: "بلى"، أي: إنَّه صلَّى فيه، فقال حُذيفةُ لزِرِّ بنِ حُبيشٍ: "أنت تقولُ ذاك يا أصلَعُ؟!"، أي: يُنكِرُ عليه إقرارَه بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم صلَّى في بيتِ المقدِسِ، خاصَّةً وأنَّ زِرَّ بنَ حُبيشٍ تابعيٌّ، ولم يَكُنْ مِن الصَّحابةِ حتَّى يكونَ على عِلمٍ مُباشرٍ بصَلاتِه تلك، ثمَّ قال له حذيفةُ: "بِم تقولُ ذلك؟"، أي: مِن أين جِئتَ بخَبرِ إثباتِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم صلَّى ببَيتِ المقدسِ، قال زِرٌّ: "قلتُ: بالقرآنِ"، أي: إنَّها مُثبَتةٌ في القُرآنِ، "بَيني وبينَك القرآنُ"، أي: الَّذي يَفصِلُ في تلك المسألةِ ما ذكَر منها القرآنُ، فقال حذيفةُ: "مَن احتَجَّ بالقرآنِ فقد أفلَح- قال سُفيانُ وهو الثَّوريُّ: يقولُ: فقد احتجَّ، وربَّما قال: قد فلَج-"، أي: ظَفِر وفاز، ومُرادُ حُذيفةَ: أنَّ مُنتَهى الحُجَّةِ ومَدارَها على القُرآنِ. فقرَأ زِرُّ بنُ حُبيشٍ قولَه تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، فقال حُذيفةُ: "أفتَراه صلَّى فيه؟"، أي: هل في ذِكْرِك للآيةِ تَصريحٌ بأنَّه صلَّى فيه؟ قال زرٌّ: "لا"، فقال حذيفةُ: "لو صلَّى فيه لكُتِب عليكم الصَّلاةُ فيه"، أي: لفُرِض عليكم الصَّلاةُ فيه، "كما كُتِبت الصَّلاةُ في المسجدِ الحرامِ"، أي: بمِثلِ ما فُرِض في المسجدِ الحرامِ، قال حذيفةُ: "قد أُتِي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بدابَّةٍ طويلةِ الظَّهرِ، مَمدودةً هكذا، خَطْوُه مَدَّ بصَرِه"، والمرادُ بها البُراقُ الَّتي أَسرى بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فما زايَلَا"، أي: لم يَترُكِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وجِبريلُ عليه السَّلامُ "ظهْرَ البُراقِ حتَّى رأَيا الجنَّةَ والنَّارَ، ووعْدَ الآخرةِ أجمَعَ"، أي: حتَّى صَعِدا للسَّماءِ، وهذا كنايةٌ عن عدَمِ دُخولِهِما لبيتِ المقدِسِ، "ثمَّ رجَعا عَوْدَهما على بَدئِهما"، وهذا تأكيدٌ أنَّهما حتَّى في رُجوعِهما لم يَنزِلا لبيتِ المقدِسِ، قال حُذيفةُ: "ويتَحدَّثون"، أي: صحابةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الَّذين يرَوْن قِصَّةَ الإسراءِ والمعراجِ: "أنَّه ربَطه، لِمَ؟"، أي: يُنكِرُ حُذيفةُ على مَن يتَحدَّثون أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قد أوثَق البُراقَ خَوفًا مِن هُروبِه وفِرارِه، "أيَفِرُّ منه وإنَّما سخَّره له عالِمُ الغيبِ والشَّهادةِ؟"، أي: وهو البُراقُ الَّذي أتى به اللهُ تعالى إليه. قيل: قد شرَع النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الصَّلاةَ في بيتِ المقدِسِ فقَرَنه بالمسجدِ الحرامِ ومَسجِدِه في شَدِّ الرِّحالِ، وذكَر فضيلةَ الصَّلاةِ فيه في أكثرَ مِن حديثٍ، وقد جاءَت رِواياتٌ تُثبِتُ صلاةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ببَيتِ المقدِسِ، وكذلك رَبْطَه للبُراقِ وتَوثيقَه له، وفي روايةٍ أنَّ جِبريلَ هو الَّذي ربَط البُراقَ، ولا تَعارُضَ بينَ ما قاله حُذيفةُ وبين تلك الرِّواياتِ؛ لأنَّ هذا مِن بابِ أنَّ رِوايةَ المثبِتِ تُقدَّمُ على روايةِ النَّافي، يَعْني: مَن أثبَت رَبْطَ البُراقِ والصَّلاةَ في بيتِ المقدِسِ معه زيادةُ عِلمٍ على مَن نَفى ذلك؛ فهو أَولى بالقَبولِ، ويُجابُ عمَّا قاله حُذيفةُ رضِيَ اللهُ عنه بأنَّ الرَّبطَ كان للتَّشريعِ بتَعاطي الأسبابِ، وتَعليمًا للأمَّةِ بذلك، لا للخوفِ مِن فِرارِه. وفي الحديثِ: إثباتُ أنَّ الحُجَّةَ مَدارُها على القُرآنِ الكريمِ، وما صحَّ مِن سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم.

وفيه: معجزةٌ مِن مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم.