"‌‌باب: ذكر نزول ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان ومطلعه إلى خلقه"294

السنة لابن ابي عاصم

"‌‌باب: ذكر نزول ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان ومطلعه إلى خلقه"294

حدثنا هشام بن عمار ثنا عبد الحميد بن أبي العشرين ثنا الأوزاعي ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا فيقول: من ذا الذي يسألني فأعطيه. من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له"

 الثلُثُ الأخيرُ منَ الليلِ أفضلُ أوقاتِ اللَّيلِ؛ تَصْفو فيه النُّفوسُ، وتَطيبُ فيه العِبادةُ، ويُستَجابُ فيه الدُّعاءُ، خصَّه اللهُ تعالَى بالنُّزولِ فيه إلى السَّماءِ الدُّنيا، وتَفضَّلَ على عِبادِه فيه، وأفاضَ الخيرَ على مَن طلَبَه.

وفي هذا الحَديثِ بيَّن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ اللهَ تَبارَك وتعالَى يَنزِلُ كلَّ لَيلةٍ حِينَ يَبْقى الثُّلثُ الأخيرُ مِن اللَّيل، وهو نُزولٌ يَليقُ به جلَّ جَلالُه؛ فإنَّه يَجِبُ الإيمانُ بما ورَدَ في ذلك -وأمثالِه- عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ مِن غَيرِ تَكْييفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِن غيرِ تحريفٍ ولا تمثيلٍ، فيَنزِلُ ربُّنا سُبحانَه إلى السَّماءِ الدُّنيا، وهي السَّماءُ الأُولى القَريبةُ منَ الأرضِ والعِبادِ، ويُنادي سُبحانَه في عِبادِه ويقولُ: مَن يَدْعوني فأسْتَجيبَ له؟ ومَن يَسأَلُني فأُعطيَه، ومَن يَستغفِرُني فأغفِرَ له؟ والدُّعاءُ، والسُّؤالُ، والاستغفارُ إمَّا بمعنًى واحدٍ، فذِكْرُ الثَّلاثةِ للتَّوكيدِ. وإمَّا لأنَّ طلَبَ العبْدِ لا يَخْلو مِن أنْ يكونَ طَلَبًا لدفْعِ المَضارِّ أو جَلْبِ المنافعِ، والمَضارُّ والمَنافعُ إمَّا دُنيويَّةٌ وإمَّا دِينيَّةٌ؛ فكرَّرَ الثَّلاثةَ لِتَشمَلَها جَميعَها. وخَصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ الثُّلُثَ الأخيرَ مِن اللَّيلِ بالنُّزولِ فيه؛ لأنَّه وَقتُ خَلوةٍ وغَفلةٍ واستِغراقٍ في النَّومِ واستلذاذٍ به، ومُفارقةُ اللَّذَّةِ والرَّاحةِ صَعبةٌ على العِبادِ؛ فمَن آثَرَ القِيامَ لمُناجاةِ ربِّه والتَّضرُّعِ إليه في غُفرانِ ذُنوبِه، وفَكاكِ رَقبتِه مِن النَّارِ، وسَأَله التَّوبةَ في هذا الوقتِ الشَّاقِّ، على خَلوةِ نفْسِه بلَذَّتِها، ومُفارقةِ راحتِها وسَكَنِها- فذلك دَليلٌ على خُلوصِ نيَّتِه، وصِحَّةِ رَغبتِه فيما عندَ ربِّه، فضُمِنت له الإجابةُ الَّتي هي مَقرونةٌ بالإخلاصِ وصِدقِ النِّيَّةِ في الدُّعاءِ؛ إذ لا يَقبَلُ اللهُ دُعاءً مِن قلْبٍ غافلٍ لاهٍ؛ فلذلك نبَّهَ اللهُ عِبادَه إلى الدُّعاءِ في هذا الوقتِ، الَّذي تَخْلو فيه النفْسُ مِن خَواطرِ الدُّنيا؛ لِيَستشعِرَ العبدُ الإخلاصَ لرَبِّه، فتَقَعَ الإجابةُ منه تعالَى؛ رِفقًا مِن اللهِ بخَلقِه، ورَحمةً لهم. 

وفي الحَديثِ: بَيانُ فضْلِ الثُّلثِ الأخيرِ مِن اللَّيل، وفضلِ الصَّلاةِ، والدُّعاءِ فيه.