‌‌ذكر البيان بأن من حسن خلقه في الدنيا كان من أحب الناس إلى الله تعالى211

صحيح ابن حبان

‌‌ذكر البيان بأن من حسن خلقه في الدنيا كان من أحب الناس إلى الله تعالى211

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عمرو النيسابوري قال حدثنا علي بن خشرم قال أخبرنا عيسى بن يونس قال حدثنا عثمان بن حكيم عن زياد بن علاقة
عن أسامة بن شريك قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسنا الرخم ما يتكلم منا متكلم إذ جاءه ناس من الأعراب فقالوا يا رسول الله أفتنا في كذا أفتنا في كذا فقال " أيها الناس إن الله قد وضع عنكم الحرج إلا امرأ اقترض من عرض أخيه فذاك الذي حرج وهلك قالوا أفنتداوى يا رسول الله قال نعم فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء غير داء واحد قالوا وما هو يا رسول الله قال الهرم قالوا فأي الناس أحب إلى الله يا رسول الله قال "أحب الناس إلى الله أحسنهم خلقا" 1. [3: 65]

كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُعلِّمًا ومُربِّيًا للنَّاسِ، وكان يُوضِّحُ لأصْحابِه ما يَخْفى عليهم مِن الأسْئلةِ، ويُجْلي لهم ما غَمُض مِن الأُمورِ، ويُرشِدُهم لِمَا يُوافِقُ الاعتِقادَ الصَّحيحَ، كما يُبيِّنُ هذا الحَديثُ الَّذي يَرْوي فيه أُسامةُ بنُ شَريكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان في مَجلِسٍ عندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معَ بعضٍ مِن أصْحابِه رَضيَ اللهُ عنهم، وهمْ صامِتونَ ولا يَتحرَّكونَ كأنَّ على رُؤوسِهم الرَّخَمَ، أي: كأنَّ طائرًا يَقِفُ على رُؤوسِهم، ويَخافونَ أنْ يَطيرَ إنْ تَحرَّكوا، أو تَكلَّموا، وهذا كِنايةٌ عن شِدَّةِ ثَباتِهم وسُكوتِهم، والرَّخَمُ: نَوعٌ منَ الطَّيرِ مَعروفٌ، واحِدتُه رَخَمةٌ، وهو مَوْصوفٌ بالغَدْرِ، وقيلَ: بالقَذَرِ.
فبيْنا هُم على هذه الحالةِ مِن السُّكوتِ، إذ جاء ناسٌ منَ الأعْرابِ، وهمُ العرَبُ الَّذين يَسكُنونَ الصَّحْراءَ، فسَأَلوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأكْثَروا مِن استِفْتائِه عن أُمورٍ كَثيرةٍ، وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُحِبُّ كَثرةَ الأسْئلةِ عن أُمورٍ افتِراضيَّةٍ، أوِ الأُمورِ الَّتي رُبَّما يكونُ فيها تَشْديدٌ على المُسلِمينَ مَخافةَ أنْ تُفرَضَ على النَّاسِ بعْدَ السُّؤالِ وإجابَتِه عنها؛ ولذلك بيَّنَ لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ اللهَ يسَّرَ على النَّاسِ، ورفَعَ عنهمُ الضِّيقَ والإثْمَ، ووسَّعَ عليهم دونَ تَجاوُزٍ، فلْيَقبَلوا بما شَرَعه اللهُ لهم، ولا يُكثِروا مِن الأسْئلةِ عمَّا لم يَنزِلْ فيه تَشْريعٌ.
ثمَّ بيَّن صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم أنَّ النَّاسَ يَكونونَ في سَعةٍ مِن أمْرِهم، ولا يَقَعونَ في الإثمِ «إلَّا امْرأً اقتَرَضَ مِن عِرضِ أخيهِ»، فتَناوَلَ أخاهُ المُسلِمَ بالسُّوءِ بالكَلامِ، أوِ الفِعالِ بالغِيبةِ والنَّميمةِ، فوقَعَ في عِرضِه، فذاك هو الرَّجلُ «الَّذي حَرِجَ وهلَكَ»، أي: أوقَعَ نفْسَه في الإثْمِ والحَرامِ.
ثمَّ سَأَل هؤلاء الأعرابُ عن بَعضِ الأُمورِ الَّتي قدْ يتَصوَّرونَ أنَّها تَتَنافَى معَ التَّوَكُّلِ على اللهِ، فقالوا: «أفنَتَداوى يا رسولَ اللهِ؟» أي: نَطلُبُ الدَّواءَ والعِلاجَ منَ الأمْراضِ؟ فأمَرَهم أنْ يَطْلُبوا العِلاجَ والتَّطبُّبَ؛ فأخْذُ الدَّواءِ والتَّداوي لا يُنافي العُبوديَّةَ؛ لأنَّ اللهَ لم يَخلُقْ داءً ولا مَرَضًا، إلَّا أنزَلَ له شِفاءً منَ الدَّواءِ والعِلاجاتِ، ثمَّ إنَّ اللهَ سُبحانَه يُوفِّقُ عِبادَه إلى الخَيرِ، فيُعلِّمُ بَعضَهم أنواعَ العِلاجاتِ الَّتي يكونُ معها الشِّفاءُ، سَواءٌ مِن خِلالِ التَّجْرِبةِ، أو مِن طلَبِ عُلومِ الطِّبِّ والأدْويةِ، ويَجهَلُه بَعضٌ آخَرُ مِن النَّاسِ مَن لم يُوفَّقْ لمَعرِفَتِه، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ بَعضَ الأدْويةِ لا يَعلَمُه كُلُّ واحِدٍ، ثمَّ بيَّنَ لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الهرَمَ، والشَّيخوخةَ، والكِبَرَ في السِّنِّ؛ هو الدَّاءُ الوَحيدُ الَّذي ليس له عِلاجٌ، وجعَلَه دَاءً تَشبيهًا له؛ فإنَّ المَوتَ يَعقُبُه كالأدْواءِ، أو لأنَّ الكِبَرَ هو مَنْبعُ الأدْواءِ والأمْراضِ، والهرَمُ والشَّيخوخةُ اضْمِحلالٌ طَبَعيٌّ وطَريقٌ إلى الفَناءِ، فلم يُوضَعْ له شِفاءٌ.
ثمَّ سَأَلوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلى اللهِ؟» والمُرادُ أنَّهم يَسْألونَ عن صِفاتِه الَّتي تَجعَلُه في تلك المَنزِلةِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أحسَنُهم خلُقًا»؛ فالمُسلِمُ الَّذي حسُنَ خلُقُه، يكونُ أحَبَّ إلى اللهِ من غَيرِه ممَّن ساءتْ أخْلاقُه، سَواءٌ فيما بيْنه وبيْن اللهِ تعالَى؛ بأنْ يُوحِّدَه ويُعظِّمَه، ويَفعَلَ أوامِرَه ويَجتنِبَ نَواهِيَه، أو فيما بيْنه وبيْنَ النَّاسِ معَ اختِلافِ طَبائعِهم، ويَتحَمَّلُ منهم ما ثَقُل عليه مِن أخْلاقِهم، فيَتَميَّزُ بالصَّبرِ عِندَ المَكارِهِ، وبَذْلِ الخَيرِ فيهم؛ حتَّى يَكونَ مُفيدًا في المُحيطِ الَّذي يَعيشُ فيه، فحُسنُ الخُلُقِ ليس بأَنْ يَكُفَّ أذاهُ عنِ النَّاسِ فقطْ، بلْ يَسْعى لِدَفعِ الأذَى الَّذي يقَعُ عليهم مِن غَيرِه، وكَمالُ الإيمانِ يُوجِبُ حُسنَ الأخْلاقِ مع كُلِّ الخَلْقِ، فمَنِ اتَّصفَ بهذه الأخْلاقِ فهو جَديرٌ بأنْ يُحِبَّه اللهُ سُبحانَه وتعالَى.
وهذا التَّفْضيلُ ليس على الإطْلاقِ، ولكنَّه نَوعٌ منَ التَّفْضيلاتِ التي ذكَرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أحاديثَ مُتعدِّدةٍ يَتَناسَبُ كُلٌّ منها مع الحالِ والمَقامِ.
وفي الحَديثِ: الزَّجرُ وتَغْليظُ الخَوضِ في أعْراضِ النَّاسِ، والنَّيلِ منها بالباطِلِ.
وفيه:ضَرورةُ الأخْذِ بالأسْبابِ في الحَياةِ، وبيانُ أنَّ هذا لا يُنافي التَّوكُّلَ على اللهِ.
وفيه: الحَضُّ على التَّحلِّي بمَكارِمِ الأخْلاقِ.