ذكر ما يستحب للمرء أن لا ينتقم لنفسه من أحد اعترض عليها أو آذاها213
صحيح ابن حبان

أخبرنا محمد بن صالح بن ذريح بعكبرا أخبرنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه
عن عائشة قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب خادما قط ولا ضرب امرأة له قط ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه شيء قط فينتقمه من صاحبه إلا أن يكون لله فإن كان لله انتقم له ولا عرض له أمران إلا أخذ بالذي هو أيسر حتى يكون إثما فإذا كان إثما كان أبعد الناس منه"1. [5: 47]
كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَؤوفًا رحيمًا، وكان يُحِبُّ التَّيْسيرَ على المُسلِمينَ في كُلِّ الأُمورِ المُحتَمِلةِ لذلِكَ، ومع ذلِكَ فإنَّه كانَ وقَّافًا عندَ حُدودِ اللهِ ومَحارمِهِ، ويَغضَبُ للهِ أشَدَّ الغَضَبِ حتى يُزالَ الحَرامُ، فكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُوازِنُ بيْنَ ما فيه مَصْلحةٌ للعبادِ، وبيْنَ ما يكونُ حقًّا للهِ تَعالى.
وفي هذا الحَديثِ تقولُ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "ما ضرَبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خادِمًا له قطُّ، ولا امرأةً له قطُّ"، والمُرادُ أنَّه لم يَضرِبْ آدميًّا؛ وهذا من حُسْنِ خُلُقِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه ما ضَرَبَ أحَدًا بيَدَيهِ، وخَصَّ المَرْأةَ والخادِمَ بالذِّكرِ؛ اهتِمامًا بشَأنِهما؛ وذلِكَ لأنَّ مِثلَهم يَتجرَّأُ عليهم لِضَعفِهم وقِلَّةِ حيلَتِهم، "ولا ضرَبَ بيَدِهِ، إلَّا أنْ يُجاهِدَ في سَبيلِ اللهِ"، فإنَّ ضَرْبَهُ وبَطْشَهُ بيَدِهِ لم يكُن إلَّا في الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، "وما نِيلَ منه شَيءٌ فانتَقَمَهُ من صاحِبِهِ" بل كان يتَسامَحُ في حَقِّ نَفْسِهِ؛ فيَعْفو ويَصفَحُ، "إلَّا أْن تُنتَهَكَ مَحارِمُ اللهِ عزَّ وجلَّ، فيَنتَقِمَ للهِ عزَّ وجلَّ"، والمَعْنى أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكنْ يَنتقِمُ ويَبطِشُ بأحَدٍ لِيَأخُذَ بحَقِّ نَفسِهِ ممَّن أساءَ إليه، ولكِنَّه كان يَغضَبُ ويَنتَقِمُ إِذا انتُهِكتْ حُرُماتُ اللهِ بالتَّعدِّي عليها، وارْتِكابِ المَعاصي، فَحينئِذٍ يكونُ أشدَّ النَّاسِ انتقامًا للأخْذِ بحقِّ اللهِ، "وما عُرِضَ عليه أمْرانِ أحَدُهما أيسَرُ من الآخَرِ، إلَّا أخَذَ بأيسَرِهِما إلَّا أنْ يكونَ مَأثَمًا" إِنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان دائِمًا ما يميلُ عندَ الاختِيارِ إلى السَّهلِ اليَسيرِ، إلَّا أنْ يكونَ في ذلِكَ وُقوعٌ في الحُرُماتِ أو المعْصيةِ، "فإنْ كان مَأثَمًا كان أبعَدَ النَّاسِ منه"، فإذا رَأى أنَّ في التَّيْسيرِ دُخولًا في الإثمِ؛ فإنَّه يأخُذُ بالعَزائِمِ والشِّدَّةِ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ سَماحةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَسامُحِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ.
وفيه: بَيانُ أنَّ حُدودَ اللهِ وحُرُماتِهِ واجِبةُ الحِفظِ والصِّيانةِ على كُلِّ مُسلِمٍ.
وفيه: بَيانُ شِدَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَقِّ اللهِ، وشِدَّةِ انْتقامِهِ للهِ .