"باب: في العزل وما أراد الله كونه كونه"215
السنة لابن ابي عاصم

حدثنا أبو بكر ثنا شبابة ثنا شعبة عن أبي الفيض قال: سمعت عبد الله بن مرة يحدث عن أبي سعيد الأنصاري أن رجلا من أشجع سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"ما قدر من الرحمن1 سيكون".
مَقادِيرُ جَميعِ الخَلائقِ بيَدِ اللهِ وحْدَه؛ فهو علَّامُ الغُيوبِ، وعلى المسلِمِ أنْ يتوَكَّلَ على اللهِ ويَأخُذَ بالأسبابِ، ثمَّ يُفَوِّضَ أمْرَه إلى اللهِ تعالَى.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أبو سَعيدٍ الخُدْريُّ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ رجُلًا جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأخبَرَه أنَّ له جاريةً -وهي الفتاةُ المملوكةُ مِن العَبيدِ، ويَحِقُّ لِمالكِها أنْ يَطَأَها ويُعاشِرَها لأنَّها مِلكُ يَمينِه- وأنَّه يَعزِلُ عنها، والعزْلُ: أنْ يَنزِعَ الرَّجُلُ ذكَرَهُ إذا قارَبَ الإنْزالَ أثناءَ مُجامعتِه المرأةَ، ويُنْزِلَ خارِجَ الفَرْجِ؛ لئلَّا يَحدُثَ الحمْلُ. والمعنى: أنَّه كان يَتعمَّدُ أنْ يَقذِفَ مَنِيَّه خارجَها؛ خَشيةَ حمْلِها، وأخبَرَ أنَّه يُريدُ ما يُريدُ الرِّجالُ، أي: يُريدُ أنْ يَستمتِعَ بها فقطْ كما يَستمتِعُ الرَّجلُ بمَن تَحِلُّ له مِن النِّساءِ، ولا حاجةَ له للولدِ منها، وكان مِن عادةِ أهْلِ المدينةِ قبْلَ هِجرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهم يَأخُذون مِن عُلومِ اليهودِ الَّذين يَسكُنون معهم المدينةَ؛ لأنَّهم أهْلُ كِتابٍ، فسَمِعَ الرَّجلُ مِن يَهودِ المدينةِ أنَّ العزْلَ هو «الموْءُودةُ الصُّغرى»، فكانوا يَرَون كأنَّه قتْلٌ للنَّفْسِ التي كانتْ ستُولَدُ لو قدَّرَها اللهَ؛ لأنَّ فيها إضاعةَ النُّطفةِ الَّتي أعدَّها اللهُ تعالى ليكونَ منها الولدُ، وسَعيًا في إبطالِ ذلك الاستِعدادِ بعَزْلِها عن مَحلِّها، وسَمَّوْها الموءودةَ الصُّغرى؛ تَمييزًا لها عن معْنى الوأْدِ عندَ الإطلاقِ وما كان يَفعَلُه العربُ قَديمًا، وهو: دفْنُ البِنتِ حيَّةً؛ خَشيةَ الفقرِ والعارِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «كذَبَتِ يهودُ» أي: في زعْمِهم هذا؛ فليس العزْلُ قتْلًا للنَّفْسِ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه إذا أراد أنْ يَخلُقَ الولدَ والنَّفْسَ ويُسبِّبَ الحمْلَ مع وُجودِ العزْلِ، فَلا بدَّ مِن خَلْقِها؛ فإنَّه قدْ يَسبِقُكم الماءُ ولو بقَليلٍ منه مِن غيْرِ شُعورِ العازلِ، فَلا تَقدِرون عَلى دَفعِه، وَلا يَنفعُكمُ الحِرصُ عَلى ذلكَ، وأيضًا قدْ يُوجَدُ الإفضاءُ -وهو الإنزالُ داخلَ الرَّحمِ- ولا يكونُ ولَدٌ؛ فالعزْلُ والإفضاءُ مُتساويانِ في ألَّا يَكونَ مِنه ولدٌ إلَّا بتَقديرِ اللهِ تعالَى؛ ففي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «لا عليكمْ ألَّا تَفعَلوا ذلكم؛ فإنَّها ليْستْ نَسَمةٌ كتَبَ اللهُ أنْ تَخرُجَ إلَّا هي خارجةٌ»، وعندَ مُسلمٍ مِن حَديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: «فجاء الرَّجلُ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الجاريةَ التي كُنتُ ذكَرْتُها لكَ حمَلَتْ» -أي: مع قصْدِ وتَحقُّقِ العزْلِ عنها- فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنا عبْدُ اللهِ ورَسولُه»، وهذا تَنبيهٌ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على صِدقِه وصِحَّةِ رِسالتِه، وأنَّه لا يَنطِقُ عن الهَوى، وأنَّ ما يَقولُه وَحْيٌ وحقٌّ مِن اللهِ سُبحانه، ومِن ذلك أنَّ حمْلَ المرأةِ وعدَمَه، والإنجابَ والعُقْمَ؛ كلُّه بتَقديرِ اللهِ سُبحانه سَواءٌ أُخِذ بأسبابِ ذلك أمْ لا.
وفي الحديثِ: مَشروعيَّةُ العزْلِ.
وفيه: إثباتُ قُدرةِ اللهِ سُبحانه المُطلَّقةِ في تَكوينِ الأجِنَّةِ وخلْقِها أو عدَمِ تَكوُّنِها.
وفيه: أنَّ اللهَ هو مُسبِّبُ الأسبابِ، وأنَّه القادرُ على خلْقِ نَتائجِها أو عدَمِها.