ذكر الخبر الدال على إباحة إظهار المرء بعض ما يحسن من العلم إذا صحت نيته في إظهاره51
صحيح ابن حبان

أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال حدثنا حرملة بن يحيى قال حدثنا بن وهب قال أخبرنا يونس عن بن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله أخبره أن بن عباس كان يحدث أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت الليلة في المنام ظلة1 تنطف2 السمن والعسل وإذا الناس يتكففون3 منها بأيديهم فالمستكثر والمستقل وأرى سببا4 واصلا من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به5 فعلوت ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلا قال: أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فلأعبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عبر" قال: أبو بكر أما الظلة فظلة الإسلام وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه أخذته فيعليك الله ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا" قال: والله يا رسول الله لتخبرني بالذي أخطأت قال: "لا تقسم"1. [65:3]
من رحمةِ اللهِ بالمُؤمِنين أنَّه يُبَشِّرُهم ويعطيهم البشرى بإرهاصاتٍ مِثلِ الرُّؤيا الصَّادِقةِ في المنامِ؛ فرُؤيا المؤمِنِ جُزءٌ مِن أجزاءِ النبُوَّةِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَجُلًا أتَى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبره أنَّه رأى في منامِه سَحَابَةً لها ظُلَّةٌ، وكلُّ ما أَظَلَّ مِن سَقِيفَةٍ ونحوِها يُسَمَّى ظُلَّةً، «تَنْطُفُ»، أي: يقطُر منها السَّمْنُ والعَسَلُ، وأنه رأى النَّاسَ يَأخُذون منها بأَكُفِّهم، وكان منهم المُسْتَكثِرُ الذي يأخُذُ كثيرًا، ومنهم المُستَقِلُّ في الأخذِ مِمَّا تَقطُرُ، فيأخُذُ قليلًا، ثم أخبر أنَّه رأى سَبَبًا -وهو الحَبْلُ- واصِلًا مِن الأرض إلى السَّماءِ، فرأى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أخذ بهذا الحَبلِ وأمسك به، فارتفَعَ، ثُمَّ أمسَكَ به رجُلٌ آخَرُ فارتفع أيضًا، ثُمَّ أمسَكَ به رجلٌ آخَرُ فارتفع أيضًا، ثُمَّ أمسك به رجلٌ آخَرُ، فانْقَطَع ثُمَّ وُصِلَ. فلما سمع أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه هذه الرُّؤيا، طلب من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأقسم عليه أن يترُكَه يُؤَوِّلُها ويُفَسِّرُها، وقولُه: «بأَبِي أنتَ»، أي: أُفَدِّيكَ بأَبِي، فأذِنَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تفسيرِها، ففَسَّرها أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بأنَّ الظُّلَّةَ الإسلامُ، والَّذِي يَقطُرُ مِن العَسَلِ والسَّمْنِ القُرْآنُ؛ حَلاوَتُه تَقطُرُ، والنَّاسُ بين مُستزيدٍ منه ومُقِلٍّ، وأمَّا الحَبلُ الواصلُ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ فالحقُّ الَّذِي عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يأخذ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيُعلِيه اللهُ به، ثُمَّ يَأخُذُ به رجُلٌ مِن بَعدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَعْلُو به، ثُمَّ يَأخُذُ به رجُلٌ آخَرُ فيَعْلُو به، ثُمَّ يأخُذُ به رجُلٌ آخَرُ فيَنقَطِعُ به، ثُمَّ يُوصَلُ له، فيَعْلُو به، هكذا فسَّرَها أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه على وَجهِ العُمومِ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَصَبْتَ بعضًا وأخطأتَ بعضًا»، فأقسم أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يخبِرَه بالذي أخطأ فيه، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا تُقسِمْ»، ولمْ يُخبِرْه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاللهُ أعلَمُ بما أصابَ وبما أخطَأَ. والعُلماءُ فَسَّروا هذه الرُّؤيا بأنها كانت إشارةً إلى توَلِّي الُخَلفاءِ الرَّاشِدين من بعد النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ الرَّجُلَ الأول الذي أخذ بالحَبلِ وارتفع هو أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ثم جاء مِن بَعْدِه عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه، فأخذ الحَبلَ وارتفع به، ثم جاء الثَّالثُ فأخذ الحَبْلَ وانقطع به، ثمَّ وُصِلَ مرَّةً أخرى، وكان ذلك إشارةً إلى أنَّ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه كاد أن يَنقطِعَ به الحَبْلُ عن اللُّحُوقِ بصاحِبَيْهِ بسَببِ ما وقَعَ له مِن فِتَنٍ، فعُبِّرَ عنها بانقطاعِ الحَبْلِ، ثُمَّ وَقَعت له الشَّهادَةُ فاتَّصَل بهم، فعُبِّر عنه بأنَّ الحَبْلَ وُصِّلَ له فاتَّصَل، فالْتَحَق بهم.
وفي الحَديثِ: سُكوتُ العالمِ عن تَعبيرِ بعضِ الرُّؤيا إذا خشِيَ منها فِتنةً على النَّاسِ أو غَمًّا.
وفيه: عدَمُ إبرارِ القَسمِ إذا كان فيه ضَررٌ.