ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة الحديث أنه يضاد خبر عائشة الذي تقدم ذكرنا له2
صحيح ابن حبان

أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى حدثنا هدبة بن خالد حدثنا أبان بن يزيد العطار حدثنا يحيى بن أبي كثير قال:
سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل أول قال: {يا أيها المدثر} قلت: إني نبئت أن أول سورة أنزلت من القرآن: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} قال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل أول قال: {يا أيها المدثر} فقلت له: إني نبئت أن أول سورة نزلت من القرآن: {اقرأ باسم ربك} قال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت في حراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي1 فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا فنوديت فنظرت فوقي فإذا أنا به قاعد على عرش بين السماء والأرض فجئثت2منه فانطلقت إلى خديجة فقلت دثروني دثروني وصبوا علي ماء باردا فأنزلت علي {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر} " 3. [1:3]
في هذا الحديثِ يُخبِرُ يَحْيى بنُ أبي كَثيرٍ أنَّه سأل أبا سَلَمةَ بنَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ عن أوَّلِ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، فذكر يَحيى بنُ أبي كَثيرٍ لأبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ أنَّهم يقولون: إنَّ أوَّلَ ما نزل من القرآنِ هو: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، فقالَ أبو سَلَمةَ: سَألْتُ جابِرَ بنَ عبدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنهما، وقلتُ له مِثلَ الَّذي قُلتَ، فأخْبَرَه جابِرٌ رضِيَ اللهُ عنه أنه لا يُحدِّثه إلَّا ما حدَّثَهم به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فأخبر أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعْلَمَهم أنه جَاوَر واعتَكَف بحِراءَ -وهو جَبَلٌ على يَسارِ الذَّاهِبِ إلى مِنًى، وعلى بُعدِ ثَلاثةِ أميالٍ مِن مَكَّةَ- فلمَّا انتهى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من اعتِكافِه نزل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الجَبلِ الَّذي فيه الغارُ، فسَمِعَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مناديًا ينادي عليه، قال: «فنَظَرتُ عَن يَميني فلَم أرَ شَيئًا، ونَظرتُ أَمامي فلَم أرَ شَيئًا، ونظَرتُ خَلْفي فلَم أرَ شَيئًا، فرفَعتُ رَأسي فَرأيتُ شَيئًا»، وهو جبريلُ عليه السَّلامُ، وقدْ رآهُ جالسًا على كُرسيٍّ بيْن السَّماء والأرضِ، فرُعِبَ منه -كما في روايةٍ في الصَّحيحينِ-. ثم أتى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَديجةَ رضِيَ اللهُ عنها فقال: «دَثِّروني»، أي: غَطُّوني «وصُبُّوا عليَّ ماءً بارِدًا» فاستجابوا له وفعلوا الذي أمر به، قال: فنزلَت {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}. واستنتج جابِرٌ رضِيَ اللهُ عنه من ذلك أنَّ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} نزلت قبل الآياتِ الخَمْسِ مِن سُورةِ العَلَقِ باجتِهادِه وظَنِّه؛ فلا يُعارِض ما في الصَّحيحينِ: أن أوَّلَ ما نزَلَ مِن القرآنِ هو قولُ اللهِ تعالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}؛ فهو أوَّلُ ما نَزَل مِن القرآنِ على الإطلاقِ، أو يُقالُ: إنَّ لفظَ «أوَّل» مِن الأُمورِ النِّسبيَّةِ، فالمُدَّثِّر يَصدُقُ عليه أنَّه أوَّلُ ما نَزَل بالنِّسبَّةِ إلى ما نَزَل بَعدَه. ويحتَمِلُ أن يكونَ مُرادُه بأوَّلِيَّةِ المدَّثِرِ أوَّلِيَّةً مخصوصةً بما بعد فترةِ الوَحيِ وانقطاعِه، أو مُقَيَّدةً بالإنذارِ لا أوَّلِيَّةً مُطلَقةً.
وفي الحَديثِ: بَيانُ سَببِ نُزولِ أوَّلِ سُورةِ المُدَّثِّرِ.