‌‌مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه 49

مسند احمد

‌‌مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه 49

حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثنا محمد بن عمر بن علي، عن علي، قال: قلت: يا رسول الله، إذا بعثتني أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال: " الشاهد يرى ما لا يرى الغائب " (1)

لمَّا تَمَّ الاتِّفاقُ على صُلحِ الحُدَيبيَةِ بَينَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَينَ كُفَّارِ قُرَيشٍ

 كَتَب النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المُلوكِ يَدعوهم للدُّخولِ في الإسلامِ، وكان مِمَّن أرسَلَ لَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُقَوقِسُ حاكِمُ مِصرَ، واختارَ لحَملِ هذه الرِّسالةِ حاطِبَ بنَ أبي بَلْتَعةَ رَضيَ اللهُ عنه، فلَمَّا ذَهَبَ إلى المُقَوقِسِ وأخبَرَه برِسالةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، عَظَّمَ المُقَوقِسُ كِتابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَعَثَ مَعَ حاطِبٍ هَدايا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان مِن تلك الهَدايا جاريةٌ اسمُها ماريةُ القِبطيَّةُ، وقدِ اتَّخَذَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَةً له ،وهيَ التي ولَدَت له ابنَه إبراهيمَ، ومِمَّا حَصَلَ في شَأنِ ماريةَ ما ذَكَرَه عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قال: كان النَّاسُ -ولَعَلَّهم مِنَ المُنافِقينَ- قد تجرَّؤوا على ماريةَ، أي: اتَّهَموها وتَكَلَّموا في شَأنِها وشَنَّعوا عليها في قِبطيٍّ، أي: في رَجُلٍ قِبطيٍّ كان يَختَلِفُ إليها، أي: يَدخُلُ عليها، وكان هذا ابنَ عَمٍّ لَها يَزورُها، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَليٍّ: انطَلِقْ، أي: اذهَبْ، فإن وجَدْتَه، أي: القِبطيَّ، عِندَها فاقتُلْه. فقال عليٌّ: يا رَسولَ اللهِ، أكونُ في أمرِك كالسِّكَّةِ -وهيَ حَديدةٌ قد كُتِبَ عليها يُضرَبُ عليها الدَّراهِمُ، وهي مَنقوشةٌ، وقيلَ: حَديدةٌ تُحرَثُ بها الأرضُ- المُحماةِ، أي: الذي اشتَدَّ حَرُّها على النَّارِ، وأمضي لِما أمَرْتَني لا يَثْنيني، أي: لا يَرُدُّني ويَرجِعُني، شَيءٌ، أمِ الشَّاهِدُ، أي: الحاضِرُ، يَرى ما لا يَرى الغائِبَ؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الشَّاهِدُ يَرى ما لا يَرى الغائِبَ، أي: الشَّاهدُ للأمرِ يَتَبَيَّنُ له مِنَ الرَّأيِ والنَّظَرِ فيه ما لا يَظهَرُ للغائِبِ؛ لأنَّ الشَّاهدَ للأمرِ يَتَّضِحُ له ما لا يَتَّضِحُ للغائِبِ عَنه. فتَوشَّحتُ، أي: لَبِستُ وتَقَلَّدتُ سَيفي. ثُمَّ انطَلَقتُ فوجَدتُه خارِجًا مِن عِندِها، أي: ماريةَ، على عُنُقِه جَرَّةٌ. وهيَ الإناءُ مِنَ الفَخَّارِ، فلَمَّا رَأيتُه اختَرَطتُ سَيفي، أي: سَلَلْتُه مِن غِمدِه، فلَمَّا رَآني إيَّاه أُريدُ، أي: أُريدُ قَتلَه، ألقى الجَرَّةَ، أي: خاف وانطَلَقَ هارِبًا، فرَقِيَ، أي: صَعِدَ في نَخلةٍ، فلَمَّا كان في نِصفِها، وقَعَ مُستَلقيًا على قَفاه، أي: على ظَهرِه، وانكَشَف ثَوبُه عنه، فإذا أنا به أَجَبُّ، أي: مَقطوعُ الذَّكَرِ، أمسَحُ ليس له شَيءٌ مِمَّا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ للرِّجالِ! فغَمَدتُ سَيفي، أي: أدخَلتُ سَيفي في الغِمدِ، وهو غِلافُ السَّيفِ، وقُلتُ: مَهْ! أي: اسكُتْ، فقال القِبطيُّ يَذكُرُ عُذرَه وسَبَبَ دُخولِه على ماريةَ: خَيْرًا، رَجُلٌ مِنَ القِبطِ. وجاءَ في رِوايةٍ أنَّه ابنُ عَمٍّ لَها، وهيَ امرَأةٌ مِنَ القِبطِ، وزَوجةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحتَطِبُ لَها، أي: أجمَعُ لَها الحَطَبَ، وأستَعذِبُ لَها، أي: أطلُبُ لَها الماءَ العَذبَ الطَّيِّبَ، يَقولُ عليٌّ رَضيَ اللهُ عنه: فرَجَعتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرتُه، أي: بما كان مِن أمرِ هذا القِبطيِّ، وأنَّه بَعيدٌ عَنِ التُّهمةِ وأنَّه مَقطوعُ الذَّكَرِ؛ ولذلك لَم يَقتُلْه، فقال رَسولُ اللهِ عليه وسَلَّمَ: الحَمدُ للَّهِ الذي يَصرِفُ عَنَّا السُّوءَ أهلَ البَيتِ! حَمِدَ اللَّهَ حَيثُ أبعَدَ عَنهم ما كان النَّاسُ يتجَرَّؤون في شَأنِ ماريةَ، وذلك مِثلُ ما أظهَرَ اللهُ بَراءةَ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها لمَّا اتَّهَمَها المُنافِقونَ
وفي الحَديثِ البُعدُ عَن مَواطِنِ الشُّبُهاتِ
وفيه طاعةُ الصَّحابةِ لأمرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه عَدَمُ التَّعَجُّلِ في تَنفيذِ الأحكامِ إذا حَصَلَ ما يوجِبُ ذلك
وفيه فَضلُ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه
وفيه مَشروعيَّةُ الاطِّلاعِ على عَورةِ الغَيرِ عِندَ الضَّرورةِ
وفيه إعمالُ النَّظَرِ والاجتِهادِ، وتَركُ الجُمودِ على الظَّواهِرِ؛ وذلك أنَّ عليًّا رَضيَ اللهُ عنه لمَّا رَأى أنَّ الرَّجُلَ مَقطوعُ الذَّكَرِ تَوقَّف عَن قَتلِه
وفيه مَشروعيَّةُ الاجتِهادِ في حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه بَراءةُ ماريةَ رَضيَ اللهُ عنها مِمَّا اتُّهِمَت به
وفيه أنَّ اللَّهَ تعالى يَصرِفُ عَن أهلِ بَيتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السُّوءَ