باب: ذكر أخذ ربنا الميثاق من عباده116
السنة لابن ابي عاصم

حدثنا ابن كاسب ثنا أنس بن عياض عن حارث بن عبد الرحمن عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه قال بيده وهما مقبوضتان: خذ أيهما شئت يا آدم. فقال: يمين ربي وكلتا يداه يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته وإذا كل إنسان منهم عنده عمره مكتوب"
لمَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ أخبَرَ سُبحانَه أنَّه سَيَجعَلُ في الأرضِ خَليفةً فيها، فاستَنكَرَتِ المَلائِكةُ ذلك، كَيف سَيَكونُ في الأرضِ مَن يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ؟! فأخبَرَهم سُبحانَه بأنَّه يَعلَمُ ما لا يَعلَمونَ، ثُمَّ خَلَقَ سُبحانَه آدَمَ عليه السَّلامُ وعَلَّمه أسماءَ كُلِّ شَيءٍ، بَل وكَرَّمه وفضَّلَه على المَلائِكةِ وجَعَلَهم يَسجُدونَ له، ومِمَّا جاءَ في قِصَّةِ خَلقِ آدَمَ عليه السَّلامُ أنَّ اللهَ تعالى لمَّا خَلَقَ آدَمَ ونَفخَ فيه الرُّوحَ -والرُّوحُ: هيَ ما يَكونُ به حَياةُ الجَسَدِ- عَطَس آدَمُ، فقال: الحَمدُ للَّهِ، فحَمِدَ اللهَ بإذنِ اللهِ، أي: بتَيسيرِه وتَوفيقِه، فقال له رَبُّه: رَحِمَك اللهُ رَبُّك يا آدَمُ. ثُمَّ قال اللهُ له: يا آدَمُ، اذهَبْ إلى أولئك المَلائِكةِ؛ إلى مَلَأٍ مِنهم جُلوسٍ. والمَلَأُ: هم أشرافُهم ومُقدَّموهم، فقُلْ لَهم: السَّلامُ عليكُم، فذَهَبَ آدَمُ فسَلَّمَ عليهم، فقالوا له: وعليك السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه، ثُمَّ رَجَعَ آدَمُ إلى رَبِّه، أي: إلى المَكانِ الذي كَلَّمَه رَبُّه فيه، فقال اللهُ له: هذه تَحيَّتُك وتَحيَّةُ بَنيك وبَنيهم، أي: أنَّ التَّحيَّةَ بَينَكُم عِندَ المُلاقاةِ هيَ السَّلامُ عليكُم. ثُمَّ قال اللهُ لآدَمَ، ويَداه سُبحانَه مقبوضتانِ: اختَرْ أيَّهما شِئتَ، فقال آدَمُ: اختَرتُ يَمينَ رَبِّي، وكِلتا يَدَي رَبِّي يَمينٌ مُبارَكةٌ، أي: أنَّ يَدَيه تَبارَكَ وتعالى بصِفةِ الكَمالِ لا نَقصَ في واحِدةٍ مِنهما؛ لأنَّ الشِّمالَ تَنقُصُ عنِ اليَمينِ، أمَّا الرَّبُّ تعالى فكِلتا يَدَيه يَمينٌ مُبارَكةٌ، ثُمَّ بَسَطَها، أي: فتَحَ الرَّبُّ سُبحانَه وتعالى يَمينَه، فإذا فيها، أي: مَوجودٌ، آدَمُ وذُرِّيَّتُه، أي: رَأى آدَمُ مِثالَه ومِثالَ بَنيه في عالَمِ الغَيبِ، فقال آدَمُ: أي رَبِّ، ما هؤلاء؟! فقال اللهُ: هؤلاء ذَرِّيَّتُك. وإذا كُلُّ إنسانٍ مَكتوبٌ عُمرُه بَينَ عَينَيه، وكان فيهم رَجُلٌ أضوَؤُهم، أي: عليه ضَوءٌ ونورٌ ظاهِرٌ، أو قال: مِن أضوَئِهم. وهو شَكٌّ مِنَ الرَّاوي. وليس المَعنى بقَولِه: أضوَؤُهم أنَّ سائِرَ الأنبياءِ دونَه في الضَّوءِ والإشراقِ، بَل لبَيانِ فَضلِه وجَمعِه بَينَ النُّبوَّةِ والمُلكِ، وإفاضةِ نورِ العَدلِ مِنَ اللهِ تعالى عليه، وأنَّه خَليفةٌ في أرضِه. لَم يكتبْ له إلَّا أربَعينَ سَنةً، أي: كَتَبَ أنَّ عُمُرَه يَكونُ أربَعينَ سَنةً فقَط. فقال آدَمُ: يا رَبِّ، زِدْ في عُمُرِه، أي: مِن عِندِك وفضلِك. فقال اللهُ: ذاكَ الذي كُتِبَ له، أي: لا مَزيدَ على ذلك ولا نُقصانَ. فقال آدَمُ: فإنِّي قد جَعَلتُ له مِن عُمري سِتِّينَ سَنةً، أي: وَهْبُته مِن عُمري سِتِّينَ سَنةً بحَيثُ يَكونُ عُمُرُه مِئةَ سَنةٍ، فقال اللهُ: أنتَ وذاكَ! أي: لَك مَطلوبُك. ثُمَّ أُسكِنَ آدَمُ الجَنَّةَ ما شاءَ اللهُ، ثُمَّ أهبِطَ مِنها، أي: نَزَلَ مِنَ الجَنَّةِ إلى الأرضِ بسَبَبِ أكلِه مِنَ الشَّجَرةِ كما أخبَرَ اللَّهُ تعالى بذلك في القُرآنِ. ولمَّا هَبَطَ آدَمُ إلى الدُّنيا ظَلَّ يَحسُبُ عُمُرَه ويَعُدُّ لنَفسِه، أي: يُقَدِّرُ له ويُراعي أوقاتَ أجَلِه سَنةً فسَنةً، فلَمَّا جاءَه مَلَكُ المَوتِ ليَقبِضَ رُوحَه، قال له آدَمُ: قد عَجِلتَ! أي: لماذا تَستَعجِلُ في قَبضِ روحي وقد بَقيَ لي، وكان قد كُتِبَ لآدَمَ ألفُ سَنةٍ، فقال مَلَكُ المَوتِ: بَلى، أي: أجَلْ، قد كُتِبَ لك ألفُ سَنةٍ، ولَكِنَّك جَعَلتَ لابنِك داوُدَ مِنها سِتِّينَ سَنةً، أي: أنَّك وهَبتَ مِنها سِتِّينَ سَنةً لابنِك داوُد؛ فلذا نَقَصَ مِن عُمرِك بمِقدارِ ذلك. فجَحَدَ آدَمُ، أي: أنكَرَ أنَّه وهَبَ مِن عُمُرِه سِتِّينَ سَنةً؛ فجَحَدَت ذُرِّيَّتُه، أي: فوقَعَت ذُرِّيَّتُه مِثلَه في النُّكرانِ والجَحدِ للحُقوقِ، ونَسيَ آدَمُ -أي: نَسيَ أنَّه وهَبَ مِن عُمرِه سِتِّينَ سَنةً لابنِه داوُدَ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الجَحدَ كان نِسيانًا أيضًا؛ إذ لا يَجوزُ أن يَكونَ جَحدُه عِنادًا- فنَسِيَت ذُرِّيَّتُه، أي: فوقَعَ النِّسيانُ في ذُرِّيَّتِه، فيَومَئِذٍ أمِرْنا بالكِتابِ والشُّهودِ، أي: ومِن ذلك العَهدِ أُمِر النَّاسُ بكِتابةِ الحُقوقِ وبالشُّهودِ عليها؛ حتَّى لا يَقَعَ هناكَ جَحدٌ ونِسيانٌ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ الحَمدِ للهِ تعالى بَعدَ العُطاسِ.
وفيه مَشروعيَّةُ تَشميتِ العاطِسِ.
وفيه إثباتُ صِفةِ الكَلامِ للهِ تعالى.
وفيه تَعليمُ اللهِ تعالى آدَمَ كَيفيَّةَ السَّلامِ.
وفيه مَشروعيَّةُ السَّلامِ وأنَّها تَحيَّةُ النَّاسِ جَميعًا.
وفيه أنَّ تَحيَّةَ السَّلامِ سُنَّةٌ قديمةٌ.
وفيه إثباتُ صِفةِ اليَدَينِ للهِ تعالى.
وفيه أنَّ يَدَيِ اللهِ تعالى كِلتاهما يَمينٌ كما يَليقُ بجَلالِه، ليس فيها نَقصٌ ولا عَيبٌ كما قد يُتَوهَّمُ بصِفاتِ البَشَرِ.
وفيه أنَّ اللهَ تعالى قدَّر أعمارَ وآجالَ الخَلقِ.
وفيه دَلالةٌ على أنَّ لكُلِّ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ضياءً، لَكِنَّه يَختَلفُ فيهم بحَسَبِ نورِ إيمانِهم.
وفيه بَيانُ عُمرِ آدَمَ عليه السَّلامُ.
وفيه بَيانُ عُمرِ داوُدَ عليه السَّلامُ.
وفيه أنَّ آدَمَ وهَبَ مِن عُمُرِه سِتِّينَ سَنةً لداودَ.
وفيه أنَّ مَلَكَ المَوتِ لا يَقبِضُ أرواحَ الأنبياءِ إلَّا بَعدَ استِئذانِهم.
وفيه بَيانُ جَحدِ آدَمَ عليه السَّلامُ وجَحدِ ذُرِّيَّتِه بَعدَه.
وفيه بَيانُ نِسيانِ آدَمَ عليه السَّلامُ ونِسيانِ ذُرِّيَّتِه بَعدَه.
وفيه أنَّ ابنَ آدَمَ مَجبولٌ مِن أصلِ خِلقَتِه على الجَحدِ والنِّسيانِ والخَطَأِ إلَّا مَن عَصَمَه اللهُ تعالى.
وفيه الأمرُ بالكِتابةِ.
وفيه الأمرُ بالشُّهودِ.
وفيه بَيانُ سَبَبِ الأمرِ بالكِتابةِ والشُّهودِ .