ذكر الزجر عن ترك تعاهد المرء ذوات الأربع بالإحسان إليها268
صحيح ابن حبان

أخبرنا الفضل بن الحباب قال حدثنا علي بن المديني قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال حدثني ربيعة بن يزيد قال حدثني أبو كبشة السلولي
أنه سمع سهل بن الحنظلية الأنصاري أن عيينة والأقرع سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فأمر معاوية أن يكتب به لهما ففعل وختمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بدفعه إليهما فأما عيينة فقال ما فيه فقال فيه ما أمرت به فقبله وعقده في عمامته وأما الأقرع فقال أحمل صحيفة لا أدري ما فيها كصحيفة المتلمس1 فأخبر معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهما فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجته فمر ببعير مناخ على الباب المسجد من أول النهار ثم مر به من آخر النهار وهو على حاله فقال "أين صاحب هذا البعير" فابتغي فلم يوجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا الله في هذه البهائم اركبوها صحاحا وكلوها سمانا كالمتسخط آنفا إنه من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم قال يا رسول الله وما يغنيه قال ما يغديه ويعشيه" 1
علَّم الإسلامُ أتباعَه تَحمُّلَ الشَّدائدِ، وعدَمَ ذُلِّ النَّفسِ بالسُّؤالِ، ما دام أنَّ معَه ما يَكْفيه ولو شيئًا يسيرًا، وفي هذا الحديثِ يقول سهل ابن الحنظلية: "قَدِم على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عُيَينةُ بنُ حِصْنٍ، والأقرَعُ بنُ حابِسٍ، فسَأَلاه"، أي: طلَبا مِنه مالًا أو عَطاءً، "فأمَر لهما بما سأَلا"؛ لأنَّه كان يتَألَّفُ قُلوبَهما على الإسلامِ، "وأمَر مُعاويةَ"، أي: ابنَ أبي سُفيانَ رَضِي اللهُ عَنهما وكان كاتِبَه، "فكَتَب لهما بِما سأَلا"، "فأمَّا الأقرَعُ فأخَذَ كِتابَه، فلَفَّه في عِمامتِه وانطلَق"، والعِمامةُ: هي ما يُلبَسُ فوقَ الرَّأسِ، "وأمَّا عُيينَةُ فأخَذ كِتابَه، وأتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مَكانَه"، أي: في المكانِ الَّذي يَكونُ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فقال: يا محمَّدُ، أتُراني حامِلًا إلى قَومي كِتابًا لا أَدري ما فيه، كصَحيفَةِ المُتلَمِّسِ!"، والمُتلمِّسُ: شاعرٌ جاهليٌّ هَجا مَلِكَ الحِيرَةِ، فكَتَب له كِتابًا إلى عامِلِه يوهِمُه أنَّ فيه عطاءً، ولكنَّه كتَب فيه أن يَقتُلَه، فارتابَ المتلمِّسُ ففتَح الكتابَ وقَرَأه، فلَمَّا عرَف ما فيه رَماه ونَجا، فصار يُضرَبُ به المثَلُ لِمَن يَحمِلُ شيئًا فيه هَلَكتُه، فأخبَر معاويةُ بقَولِه رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "مَن سأَل وعِندَه ما يُغْنيه"، أي: عن السُّؤالِ، "فإنَّما يَستَكثِرُ مِن النَّارِ"، أي: يَسأَلُ الزِّيادةَ مِن عَذابِه في النَّارِ، وقال النُّفيليُّ، أحَدُ رُواةِ الحديثِ في موضِعٍ آخَرَ: "مِن جَمرِ جهَنَّمَ"، أي: يَستكثِرُ مِن جَمعِ جَمْرِ النَّارِ، "فقالوا: يا رسولَ اللهِ، وما يُغْنيه؟"، أي: ما المِقْدارُ الَّذي يَكْفيه عَن السُّؤالِ؟ وقال النُّفيليُّ في موضِعٍ آخَرَ: "وما الغِنى الَّذي لا تَنبَغي معَه المسألةُ؟ قال: قَدْرَ ما يُغدِّيه ويُعشِّيه"، أي: يَكونُ معَه مِن المالِ أو يَقدِرُ أن يَكتسِبَ قَدْرُ ما يَكْفيه طعامَ الغَداءِ والعَشاءِ، وقال النُّفيليُّ في موضِعٍ آخَرَ: "أن يَكونَ له شِبْعُ يومٍ وليلةٍ"، أي: مِقدارُ ما يُشْبِعُه في طولِ يومٍ وليلةٍ، "أو ليلةٍ ويومٍ"، شكٌّ مِن راوي الحديثِ. وفي هذا الحديثِ: بيانٌ لِسَعَةِ صَدرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وحِلْمِه، وحُسنِ تَعْليمِه لأصحابِه.