"‌‌باب" حديث "لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون"176

السنة لابن ابي عاصم

"‌‌باب" حديث "لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون"176

ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون"

الحَياةُ الدُّنيا مَزرَعةٌ للأعمالِ الصَّالحةِ؛ فهيَ دارُ العَمَلِ والآخِرةِ دارُ الحِسابِ والجَزاءِ؛ ولهذا كان طولُ عُمرِ الإنسانِ خَيرًا له حَتَّى يَزدادَ مِنَ الأعمالِ الصَّالحةِ، ولا يَنبَغي لمَن مَرِضَ أو أصابَه ضُرٌّ وبَلاءٌ أن يَتَمَنَّى المَوتَ، بَل يَصبرُ ويَعلَمُ أنَّه قد يَكونُ بَقاؤُه في الدُّنيا خَيرًا له، وهذا الحَديثُ له قِصَّةٌ وسَبَبٌ، وذلك أنَّ سَعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه مَرِضَ واشتَدَّ به المَرَضُ حَتَّى ظَنَّ أنَّه سيَموتُ وأرادَ أن يوصيَ بمالِه كُلِّه، فزارَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَنَعَه مِن أن يَتَصَدَّقَ بمالِه كُلِّه، وكان مَرَضُه في مَكَّةَ، فقال سَعدٌ: يا رَسولَ اللهِ، أُخَلَّفُ بَعدَ أصحابي؟ أي: أبقى بمَكَّةَ بَعدَ أصحابي، وإنَّما قال ذلك إشفاقًا مِن مَوتِه بمَكَّةَ لكَونِه هاجَرَ مِنها وترَكَها للَّهِ تعالى، فخَشيَ أن يَقدَحَ ذلك في هجرَتِه أو في ثَوابِه عليها، أو خَشيَ بَقاءَه بمَكَّةَ بَعدَ انصِرافِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه إلى المَدينةِ، وتَخَلُّفَه عنهم بسَبَبِ المَرَضِ. فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّك لَن تُخَلَّفَ بَعدي. والمُرادُ بالتَّخَلُّفِ طولُ العُمرِ والبَقاءُ في الحَياةِ بَعدَ جَماعاتٍ مِن أصحابِه، فتَعمَلَ عَمَلًا صالحًا إلَّا ازدَدتَ به دَرَجةً ورِفعةً، أي: أنَّك لَن تَعمَلَ عَمَلًا تَرجو به ثَوابَ اللهِ إلَّا كان زيادةً في دَرَجاتِك عِندَ اللهِ ورِفعةً في مَنزِلَتِك. ثُمَّ لَعَلَّك أن تُخَلَّفَ، أي: يَتَأخَّرَ مَوتُك، حَتَّى يَنتَفِعَ بك أقوامٌ، أي: في دينِهم ودُنياهم، ويُضَرُّ بك آخَرونَ، أي: في دينِهم ودُنياهم، فيُقتَلوا وتُسبى نِساؤُهم وأولادُهم وتُغنَمَ أموالَهم وديارَهم. وهذا ما وقَعَ؛ فقد عاشَ سَعدٌ رَضِيَ اللهُ عنه بَعدَ ذلك أكثَرَ مِن أربَعينَ سَنةً، وفتَحَ العِراقَ ووليَها فاهتَدى على يَدَيه خَلائِقُ، وتَضَرَّرَ به خَلائِقُ بإقامَتِه الحَقَّ فيهم مِنَ الكُفَّارِ ونَحوِهم. اللَّهُمَّ أمضِ لأصحابي هِجرَتَهم، أي: أتمِمْها ولا تُبطِلْها، ولا تَرُدَّهم على أعقابِهم، أي: بتَركِ هجرَتهم ورُجوعِهم عن مُستَقيمِ حالِهمُ المَرضيَّةِ. لكِنِ البائِسُ -وهو الذي عليه أثَرُ البُؤسِ، وهو الفقرُ والقِلَّةُ- سَعدُ بنُ خَولةَ! وخَولةُ اسمُ أُمِّه، وهو مِن فُضَلاءِ الصَّحابةِ، وقيلَ في شَأنِه: إنَّه لَم يُهاجِرْ مِن مَكَّةَ حَتَّى ماتَ بها، وقيلَ: إنَّه هاجَرَ وشَهدَ بَدرًا ثُمَّ انصَرَف إلى مَكَّةَ وماتَ بها، وقيلَ: تُوفِّي بمَكَّةَ في حَجَّةِ الوداعِ. وأمَّا سَبَبُ بُؤسِه فلسُقوطِ هِجرَتِه لرُجوعِه مُختارًا ومَوتِه بمَكَّةَ، وقيلَ: سَبَبُ بُؤسِه مَوتُه بمَكَّةَ على أيِّ حالٍ كان وإن لَم يَكُنْ باختيارِه لِما فاتَه مِنَ الأجرِ والثَّوابِ الكامِلِ بالمَوتِ في دارِ هجرَتِه، وقد كانوا يَكرَهونَ ذلك؛ أن يَموتَ الرَّجُلُ بالبَلَدِ الذي قد هاجَرَ مِنه، ويَخشَونَ نُقصانَ أجرِه.
وفي الحَديثِ عَلَمٌ مِن أعلامِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه فضيلةُ طولِ العُمرِ للازديادِ مِنَ العَمَلِ الصَّالحِ.
وفيه تَسليةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه؛ لِما قد يُصيبُهم مِن مَرَضٍ ونَحوِه.
وفيه تَعظيمُ أمرِ الهجرةِ.
وفيه حِرصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أصحابِه ودُعاؤُه لَهم.
وفيه فَضلُ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
وفيه مَشروعيَّةُ نِسبةِ الشَّخصِ إلى أُمِّه .