باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين 1

بطاقات دعوية

باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين 1

وعن عياض بن حمار - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد )) رواه مسلم .

أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما أرسل به إلى الناس، ويبين لهم سبل الهدى والرشاد، وينهاهم عن طريق الضلال، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بما أمره به الله عز وجل؛ فأوضح لأمته طريق الجنة وطريق النار، وسبيل الخير والشر
وفي هذا الحديث يروي الصحابي عياض بن حمار رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في أصحابه رضي الله عنهم ذات يوم: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا» أي: اليوم الذي يقول فيه خطبته تلك على وجه الخصوص، وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الناس بكل ما أنزل إليه، فيحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على فورية الإعلام بمعلومات اليوم، وأن غيرها كان على التراخي، أو يحمل على بعض الأمور التي كان يخص بها مما لا تطيقه أفهامهم.
وأنه سبحانه قال: «كل مال نحلته عبدا حلال»، والنحلة العطاء بدون مقابل، والمعنى: كل مال أعطيته عبدا من عبادي بطريق مشروع فهو له حلال، والمراد إنكار ما حرموا على أنفسهم، مثل بعض البهائم، كالسائبة والوصيلة والبحيرة والحامي وغير ذلك، وأنها لم تصر حراما بتحريمهم، وكل مال ملكه العبد بطريق مشروع فهو حلال له، يتصرف فيه في أي وجه من الوجوه المشروعة
«وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم» جمع حنيف، وهو المائل عن الباطل المنقطع للحق، والمعنى: أنه سبحانه خلقهم على الفطرة مسلمين، وقيل: طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية. «وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم»، أي: صرفتهم وذهبت بهم عن دينهم إلى الأباطيل، وحرمت عليهم ما أحل الله لهم، وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، أي: دون حجة وبرهان
«وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم»، أي: أبغضهم أشد البغض، عربهم وعجمهم، والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: «إلا بقايا من أهل الكتاب» وهم الذين لم يزالوا متمسكين بالحق ولم يبدلوا دينهم، فقال الله تعالى: «إنما بعثتك» يا محمد «لأبتليك»، أي: لأمتحنك وأختبرك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به؛ من تبليغ الرسالة والجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله تعالى وغير ذلك، «وأبتلي بك» من أرسلتك إليهم، فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعاته، ومنهم من يتخلف ويعلن العداوة والكفر، ومنهم من ينافق
«وأنزلت عليك كتابا» وهو القرآن «لا يغسله الماء» أي: لا يمحوه ولا يذهب به، بل يبقى على مر العصور؛ لكونه محفوظا في الصدور، فخف على الألسنة ووعته القلوب، فلو غسلت المصاحف لما انغسل من الصدور، ولما ذهب من الوجود، ويشهد لذلك قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]، وقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17]، «تقرؤه نائما ويقظان»، ومعناه: يكون محفوظا لك في حالتي النوم واليقظة، فلا تغفل عنه، وقيل: تقرؤه في يسر وسهولة.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإن الله أمرني أن أحرق قريشا» والأمر بالتحريق أمر بالقسوة على الكفار منهم ولو بإبادتهم وإبادة ممتلكاتهم، وقيل: المعنى: أمرني أن أغيظهم بما أسمعهم من الحق الذي يخالف أهواءهم بتعييب آلهتهم، وتسفيه عقول آبائهم، وقتالهم ومغالبتهم حتى كأني أحرق قلوبهم بالنار «فقلت: رب إذن يثلغوا رأسي»، أي: يشدخوه ويشجوه، فيدعوه خبزة، أي: فيتركوه مثل الخبزة التي تشدخ وتكسر، قال: «استخرجهم كما استخرجوك»، أي: أخرجهم من ديارهم كما أخرجوك، «واغزهم نغزك»، أي: نعينك على غزوهم وننصرك عليهم، «وأنفق» واصرف ما عندك من المال في سبيل الله والجهاد، «فسننفق عليك» ونخلف لك بدله في الدنيا والآخرة، «وابعث جيشا» لجهادهم «نبعث خمسة» مثله من جيوش الملائكة، ونحوه من جند الله عز وجل، كما فعل في غزوة بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم بدر في ثلاث مئة من أصحابه وثلاثة عشر، وقيل: سبعة عشر، فأمده الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة، كما نطق بذلك القرآن الكريم، «وقاتل بمن أطاعك» ممن آمن بك واتبعك «من عصاك» فكفر بدعوة الإسلام.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وأهل الجنة» أي: إن من صفات أهل الجنة، من كانت فيه إحدى تلك الخصال الثلاث:
فالأول: ذو سلطان، ويشمل كل من ولي أمرا من أمور المسلمين، مقسط في رعيته، فيقيم فيها العدل والحق، متصدق، أي: يبذل فيهم المال والعطاء، ولا يكتنز من أموالهم شيئا، «موفق» قد هيئت له أسباب الخير، وفتح له أبواب البر.
والثاني: رجل رحيم، أي: كثير الرحمة والإحسان على الصغير والكبير رقيق القلب لين عند التذكر والموعظة، فهو ذو رأفة ورحمة لأقاربه ولأهل الإسلام، فيبذل في جميعهم الخير والعطاء وقضاء الحوائج بما قدره الله عز وجل عليه.
والثالث: عفيف، أي: متصف بالعفة، مجتنب عما لا يحل، متعفف، عن السؤال، متوكل على الملك المتعال في أمره، والعفيف من كانت العفة سجية وطبيعة له، والمتعفف من يكلف نفسه بالعفة ويكتسبها بعد أن لم تكن، وهو ذو عيال، أي: له من الأولاد ونحوهم مما يحتاجون الإنفاق عليهم، إلا أنه لا يحمله حاجة العيال ولا خوف رزقهم على ترك التوكل على الله عز وجل، فلا يسأل الناس ما في أيديهم، بل يبذل نفسه في كسب قوت يومه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وأهل النار خمسة»، أي: إن تلك الخصال من صفات أهل النار:
الأول: «الضعيف الذي لا زبر له»، أي: لا رأي ولا عقل كاملا يعقله ويمنعه عن ارتكاب ما لا ينبغي، وسمي العقل "زبرا"؛ لأن الزبر في أصله المنع والزجر، ولما كان العقل هو المانع لمن اتصف به من المفاسد والزاجر عنها سمي بذلك.
«الذين هم فيكم تبع» يعني به الخدام الذين يكتفون بالشبهات، والمحرمات التي سهل عليهم أخذها عما أبيح لهم، وليس لهم داعية إلى ما وراء ذلك من أهل ومال، وقيل: هم الذين يدورون حول الأمراء ويخدمونهم، ولا يبالون من أي وجه يأكلون ويلبسون؛ أمن الحلال أم من الحرام؟ لا يبغون أهلا، أي: فلا يطلبون زوجة ولا سرية، يتعففون بهن عن الفاحشة فأعرضوا عن الحلال وارتكبوا الحرام، «ولا مالا»، أي: ولا يطلبون مالا حلالا من طريق الكد والكسب الطيب، وفي الجملة فهؤلاء القوم ضعفاء العقول، فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية ولا فضيلة نفسية ولا دينية، بل يهملون أنفسهم إهمال الأنعام، ولا يبالون بما يكونون عليه من الحلال أو الحرام، بل هم تبع لقادتهم يسيرون معهم حيث ساروا، وإنما استحقوا النار؛ لأنهم لم يستعملوا ما وهبهم الله تعالى من العقل والفكر، واتبعوا هواهم فيما نهى الله عنه.
وفي رواية أخرى لمسلم: أن قتادة بن دعامة -أحد رواة الحديث- قال لشيخه أبي عبد الله مطرف بن عبد الله بن الشخير: «أفيكون ذلك؟!» والمعنى: وهل سيوجد هؤلاء بتلك الصفة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهذا سؤال تعجب لا إنكار؛ حيث عجب لأخلاق هؤلاء وما يرضوه لأنفسهم، فقال مطرف: «نعم، والله لقد أدركتهم في الجاهلية» أي: أنه وجد مثل أوصاف هؤلاء في أهل الجاهلية -وهي فترة ما قبل الإسلام- وأن الرجل كان في الجاهلية يرعى على القوم الغنم «ما به إلا وليدتهم» أي: أمتهم، يزني بها، فكان لا يقصد برعيه الغنم الأجرة عليه، وإنما لأجل الفاحشة، فبذلك يرضى من نفسه أن يكون ذليلا راعيا للغنم من أجل هذه الفاحشة، نسأل الله السلامة والعافية.
والثاني: الخائن الذي لا يخفى له طمع، أي: لا يخفى عليه شيء مما يمكن أن يطمع فيه، وإن دق بحيث لا يكاد أن يدرك إلا خانه، أي: إلا وهو يسعى في التفحص عنه، والتطلع عليه حتى يجده فيخونه، وهذا هو الإغراق في الوصف بالخيانة، ويحتمل أنه الذي لا يظهر له طمع في الوديعة مثلا عند الإيداع، ثم يخون الذي ائتمنه في أمانته، فيأخذ منها شيئا لينتفع به وإن دق وقل ذلك الذي أخذه.
والثالث: رجل لا يمر عليه زمن من الأزمان ليلا أو نهارا، إلا أنه يريد خداعك في أهلك وزوجتك بفعل الفاحشة، وفي مالك يأخذه ظلما وسرقة أو غصبا أو نهبا.
الرابع: البخل أو الكذب -بالشك من الراوي أي الكلمتين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- والبخيل هو الذي يمنع ما عليه من حقوق مالية، سواء الدينية كالزكاة والصدقات ونحوها وهو قادر عليها، أو الدنيوية كالنفقة على الأهل والعيال، فهو من أرذل الأخلاق وأقبحها، وأما الكذب فهو تعمد الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وقد حرمه الله عز وجل في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين في قوله: «وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا».
والخامس: "الشنظير": السيئ الخلق، الفاحش، أي: المكثر للفحش، والمعنى: أنه مع سوء خلقه فحاش في كلامه لما بينهما من التلازم الغالبي.
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته تلك: «وإن الله أوحى إلي أن تواضعوا» والتواضع: هو رضا الإنسان بمنزلة دون ما يستحقها محتسبا الأجر في ذلك عند الله تعالى، وقد جاء عند مسلم: «وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله»، ومن دواعي التواضع أنه يمنع صاحبه من الفخر والكبر على غيره؛ لا في نسب ولا مال أو غير ذلك، وأيضا فإن خلق التواضع يمنع صاحبه أن يظلم غيره.
وفي الحديث: بيان صفة أهل الجنة وأهل النار.
وفيه: أن الجنة والنار مخلوقتان.
وفيه: فضل الوالي العادل القائم بطاعة الله سبحانه وتعالى.
وفيه: ثواب الواصل والرحيم بالمسلمين.
وفيه: فضل المحتاج المتعفف.
وفيه: النهي عن الخيانة والبخل وفحش القول.
وفيه: بيان اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أمته ما لا يعلمونه، مما علمه الله عز وجل بالوحي.
وفيه: بيان أن ما يملكه الإنسان حلال لا يحرم منه شيء إلا ما حرمه الله، وليس بأهواء البشر.
وفيه: بيان ما كان عليه أهل الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ من انحرافهم عن الدين، حتى غضب الله عليهم.
وفيه: بيان أن أهل الحق لم ينقطعوا من الأرض خلال الفترات ما بين الأنبياء، وإن قلوا.
وفيه: أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ابتلاء له: هل يقوم بالتبليغ، ويصبر على أذى قومه؟
وفيه: بيان تيسير الله تعالى القرآن، وتسهيله على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أمته.