باب السوم
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون، عن الجريري، عن أبي نضرةعن جابر بن عبد الله، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فقال لي: "أتبيع ناضحك هذا بدينار، والله يغفر لك؟ " قلت: يا رسول الله، هو ناضحكم إذا أتيت المدينة. قال: "فتبيعه بدينارين، والله يغفر لك؟ " قال: فما زال يزيدني دينارا دينارا ويقول مكان كل دينار: "والله يغفر لك" حتى بلغ عشرين دينارا، فلما أتيت المدينة أخذت برأس الناضح، فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا بلال، أعطه من الغنيمة (1) عشرين دينارا"، وقال: "انطلق بناضحك فاذهب به إلى أهلك" (2).
كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يحِبُّ أصحابَه، ويَعلَمُ أحوالَهم من حيثُ الغِنى والفقرُ والحاجةُ، ويعلَمُ تعفُّفَهم، وكان يُوصلُ لهم النَّفعَ والمالَ بطُرُقٍ لا تُسبِّب لهم خَجلًا أو إراقةَ ماءِ وُجوهِهم، وهذا مِن حُسنِ خُلقِه وعَظيمِ شمائلِه.
وفي هذا الحديثِ يقولُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنهما: "كنْتُ مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزوةٍ"، قيل: كان هذا المسيرُ من رُجوعِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من غَزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ، "فقال لي: أتبيعُ ناضِحَك هذا بدينارٍ"، أي: جملَك وبعيرَك، والنَّاضحُ: هو البعيرُ الَّذي يُسْتَقى به الماءُ، "واللهُ يغفِرُ لك" وفي روايةِ مُسلمٍ، قال أبو نَضرةَ راوي الحديثِ عن جابرٍ: "فكانتْ كلمةً يقولُها المُسلمونَ: افعَلْ كذا وكذا واللهُ يغفِرُ لك"، أي: يُردِّدونَ طلَبَ المغفرةِ في كلامِهم لبعضِهم البعضِ، وكانت عادتُهم أنْ يذكُروها في آخرِ كلامِهم إذا أراد أحدٌ من غيرِه أمرًا. قال جابرٌ رضِيَ اللهُ عنه: "قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، هو ناضِحُكم"،أي: هَديَّةٌ وهِبةٌ يا رسولَ الله؛ لِمَا في روايةِ الصَّحيحَينِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رفَضَ وقال: "لا، بل بِعْنِيه"، واستعمَلَ صِيغَةَ الجمْعِ في الخطابِ للتَّعظيمِ، "إذا أتيتُ المدينةَ" وهو شَرْطٌ في البيعِ أنْ يَستعمِلَ الجملَ في الرُّكوبِ، وهذا شرطُ تفضُّلٍ، وقد قَبِلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك الشَّرطَ، ووعَدَ جابرًا أنْ يحمِلَه على الجمَلِ حتَّى يأتيَ المدينةَ، والقِصَّةُ كلُّها مبنيَّةٌ على التَّفضُّلِ مِن النَّبيِّ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ والبِرِّ بجابرٍ رضِيَ اللهُ عنه، فقال له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فتَبيعُه بدِينارينِ، واللهُ يغفِرُ لك"، فزاده النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سِعرِ الجمَلِ حتَّى بعدَ المُوافقةِ على البيعِ بدينارٍ.
قال جابرٌ رضِيَ اللهُ عنه: "فما زال"، أي: النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "يَزيدني دِينارًا دِينارًا، ويقولُ مكانَ كلِّ دِينارٍ: واللهُ يغفِرُ لك، حتَّى بلَغَ عِشرينَ دِينارًا. فلمَّا أتيتُ المدينةَ، أخذْتُ برأسِ النَّاضحِ، فأتيتُ به النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أي: ليُتِمَّ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيعَه بعدَما أنفَذَ له شرْطَه وهو وصولُهم إلى المدينةِ، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "يا بلالُ، أعْطِه مِن الغَنيمةِ عِشرينَ دِينارًا"، أي: مِن خُمسِ الغَنيمةِ الخاصِّ بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال: "انطلِقْ بناضِحِك فاذهَبْ به إلى أهلِك"، أي: رَدَّ عليه النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جمَلَه تكرُّمًا منه وتفضُّلًا. أرادَ أنْ يبَرَّ جابرًا على وجْهٍ لا يَحصُلُ لغيرِه طمَعٌ في مثلِه، فبايعَه في جمَلَه على اسمِ البَيعِ؛ ليتوفَّرَ عليه بِرُّه، ويُبْقي عليه البعيرَ قائمًا على مُلكِه، فيكونَ ذلك أهنَأَ لمَعروفِه، وعلى هذا المعنى أمَرَ بلالًا أنْ يَزيدَه على الثَّمنِ، زِيادةً مُبهمةً في الظَّاهرِ؛ فإنَّه قصَدَ بذلك زِيادةَ الإحسانِ إليه، ولم يُرِدْ بيعًا حقيقيًّا.
وقد بيَّنَتِ الرِّواياتُ الأُخرى للحديثِ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إنَّما ساومَه على جمَلِه من أجْلِ أنْ يُعطيَه، وليس من أجْلِ أنْ يأخُذَ الجمَلَ، وقد ورَدَ اختلافُ الرِّواياتِ في الثَّمنِ. وقيل: سبَبُ الاختلافِ أنَّهم رُوُوا بالمعنى، والمُرادُ أوقيَّةُ الذَّهبِ، والأربعُ أواقٍ والخَمسُ بقدْرِ ثمنِ الأوقيَّةِ الذَّهبِ، والأربعةُ دَنانيرَ مع العِشرينَ دِينارًا محمولةٌ على اختلافِ الوزنِ والعدَدِ، وكذلك روايةُ الأربعينَ درهمًا مع المئتي دِرهمٍ، فكأنَّ الإخبارَ بالفِضَّةِ عمَّا وقَعَ عليه العَقدُ، وبالذَّهبِ عمَّا حصَلَ به الوفاءُ أو بالعكسِ.
وفي الحديثِ: بيانُ بِرِّ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأصحابِه وعَطائِه، مع اختصاصِه ببَعضِ الأفعالِ الَّتي لا تَجوزُ لغيرِه في البَيعِ والشِّراءِ والاشتراطِ فيه.