باب حد المريض أن يشهد الجماعة
بطاقات دعوية
عن الأسودِ (قلت، وغيره دخل حديث بعضهم في بعض) قال: كنا عند عائشةَ رضي اللهُ عنها، فذكرنا المواظبةَ على الصلاةِ والتعظيمَ لها، قالت:
لما مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - مرضَه الذي ماتَ فيه، (ومن طريق عُبَيد الله بن عبد الله بن عُتبة قال: دَخلتُ على عائشةَ، فقلت: ألا تُحَدِّثِيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: بلى، [لمَّا] ثقُلَ النبي - صلى الله عليه وسلم -) [واشْتَدَّ وَجَعُهُ؛ استأذنَ أزواجَه أن يُمرَّضَ في بيتي، فأذِنَّ له]، فَحَضَرَتِ الصلاةُ، فأُذِّنَ، [فقالَ: "أصلَّى الناسُ؟ ". قلنا: لا، هم ينتظرونَكَ، قال: "ضَعُوا لي ماءً في المِخْضَبِ"، قالت: ففعلنا، فاغتسلَ، فذهب لينُوءَ، فأُغمي عليه، ثم أفاقَ، فقال - صلى الله عليه وسلم -:
"أصلَّى الناسُ؟ ". قلنا: لا، هم ينتظرونَكَ يا رسولَ اللهِ، قالَ:
"ضَعُوا لي ماءً في المِخْضبِ"، قالت: فقَعَدَ فاغتَسَلَ، ثم ذهبَ لينوءَ، فأُغمي عليه، ثم أفاق، فقال:
"أصلَّى الناسُ؟ ". قلنا: لا، هم ينتظرونَكَ يا رسولَ اللهِ، فقال:
"ضعوا لي ماءً في المِخْضبِ"، فقعد فاغتسَل، ثم ذهب لينوء، فأُغمي عليه، ثم أفاقَ فقال: في المسجدِ يَنتظرون النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لصلاةِ العشاء الآخرَةِ]، فقال: "مُروا أبا بكرٍ فَليُصلِّ بالناس"، (وفي الطريق المتقدمة: فأرسلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكرٍ أن يصلِيَ بالناسِ، فأتاه الرسولُ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُكَ أن تصلي بالناس)، فَقِيلَ (وفي طريقٍ ثالثةٍ: قالت عائشة: قلت) له: إن أبا بكر رجل أسِيفٌ، إذا قامَ مَقَامَكَ لم يستطعْ أنْ يصليَ بالناسِ، (وفي طريقٍ: لم يُسمع الناسَ من البكاء، فَمُرْ عمرَ فليُصَلِّ، وفي أخرى: فقال أبو بكر- وكان رجلاً رقيقاً-: يا عمرُ! صلِّ بالناس، فقال له عمر: أنت أحَقُّ بذلك).
وأعادَ، فأعادوا له، فأعاد الثالثةَ، [فقالت عائشة: فقلت لحفصةَ: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامِكَ لم يُسمِعِ الناس من البكاء، فمُرْ عمرَ فليصلِّ بالناسِ، ففعلت حفصة]، فقال: (وفي طريقٍ: فقلت مثله، فقال في الثالثة أو الرابعة):
" [مهْ] إنَّكُنَّ [لأَنْتُنَّ] صواحبُ يوسف، مروا أبا بَكْرٍ فليصلِّ بالناسِ"، [فقالت حفصة لعائشة: ما كنتُ لأُصيبَ منكِ خيراً]، فخرج أبو بكر فصلى [تلك الأَيام].
فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - من نفسه خِفةً، فخرج يُهَادَى بين رَجُلين [- أحدهما العباس- لصلاة الظهر]، كأني أنظر رِجْلَيْهِ يَخُطان الأَرضَ من الوَجَعِ، [حتى دخل المسجد] [وأبو بكر يصلي بالناس]، فـ[ـلما سمعَ أبو بكر حِسَّهُ] أرادَ أن يتأخرَ، فأومأ (وفي طريقٍ: استأخر، فأشار1/ 166) إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن: مَكانَكَ، (وفي
"أصلَّى الناسُ؟ ". فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسولَ اللهِ، والناس عكوف طريقٍ: أن صلِّ)، ثم أُتِيَ به حتى جَلَسَ إلى جَنْبهِ (وفي روايةٍ: حِذَاءَ أبي بكر [عن يساره])، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلي [قاعداً]، وأبو بكر يصلي بصلاته [قائماً]، والناسُ يصلون بصلاةِ أبي بكر، [يُسمع الناس التكبيرَ].
[قالت عائشة: لقد راجعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وما حملني على كثرة مراجَعَتِه إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحبَّ الناسُ بعده رجلاً قام مقامَه أبداً، ولا كنتُ أرى أنه لن يقومَ أحدٌ مقامَه إلا تشاءَم الناسُ به، فَأَرَدْتُ أن يعدِلَ ذلك رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن أبي بكر].
[قال عبيد الله: فدخلتُ على عبدِ اللهِ بن عباسٍ، فقلت له: ألا أعرضُ عليك ما حَدَّثَتْني عائشةُ عن مرضِ النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هاتِ، فعرضتُ عليه حديثَها، فما أنكر منه شيئاً، غير أنه قال: أسمَّتْ لك الرَّجُلَ الذي كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو عَلِيّ] [ابن أبي طالب].
[وكانت عائشة تحدِّثُ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعدما دخل بيتَه، واشْتَدَّ [به 7/ 71] وجعُه: هَريقوا عليَّ من سبع قِرَبٍ لم تُحلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعلِّي أعهدُ إلى الناس، وأُجلِسَ في مِخضب لحفصة زوجَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم طفقنا نصُبُّ عليه من تلك القِرَب حتى طفِق (وفي روايةٍ: جَعَلَ) يشير إلينا أن قد فَعَلْتُنَّ، ثم خرج إلى الناس] [فصلى لهم، وخطبهم].
صَلاةُ الجَماعةِ أمْرُها عَظيمٌ، اهتَمَّ بها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اهتِمامًا كبيرًا، وكذا الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ، ولم يَتخلَّفْ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنها، ولم يُهمِلْها أبدًا، حتَّى عِندَما اشتدَّ المرَضُ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنابَ عنه مَن يُصلِّي بالنَّاسِ، فتَروي عائشةُ أُمُّ المؤمنينَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّه لَمَّا اشتدَّ مرَضُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَستطِعِ الخُروجَ لِلجَماعةِ، فجاءَه بلالٌ رَضيَ اللهُ عنه يُعلِمُه بدُخولِ وقتِ الصَّلاةِ، فأمَرَهمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَأمُروا أبا بكرٍ أنْ يُصلِّيَ هو بالنَّاسِ إمامًا، فخافَتْ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنْ يَتشاءَمَ النَّاسُ مِن أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ لأنَّه حَلَّ محَلَّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأرادَتْ أنْ تَدفَعَ عنه ذلك، فقالتْ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ أبا بكرٍ رجُلٌ كثيرُ البُكاءِ والحزنِ في الصَّلاةِ، فلو قامَ لِلإمامةِ لنْ يُسمِعَ النَّاسَ قراءتَه مِن كثرةِ البكاءِ، وكان أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه كما قالتْ حقيقةً، فلمْ يَلتفِتِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِقولهِا، وكرَّرَ قولَه: «مُرُوا أبا بكرٍ يُصلِّي بِالنَّاسِ»، فقالت عائشةُ لِحَفْصةَ رَضيَ اللهُ عنهما: قُولي للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ أبا بَكرٍ رجُلٌ أَسِيفٌ، وإنَّه متى ما يَقُمْ مَقامَك لا يُسمِعُ الناسَ، فلو أمَرْتَ عُمرَ يقومُ هو بالنَّاسِ، فلمَّا سمِع النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك قال: «إنَّكنَّ لَأنْتُنَّ صَواحِبُ يُوسفَ»، والمرادُ أنهنَّ مِثلُ صواحِبِ يوسفَ في إظهارِ خِلافِ ما يُبطِنَّ، وكثرةِ إلحاحِهنَّ في طلَبِ ما يُرِدْنَه ويَمِلْنَ إليه، ثمَّ كرَّرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمْرَه لِأبي بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يُصلِّيَ بِالنَّاسِ، فلمَّا جاءَ أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه وافتَتَح الصَّلاةَ شَعَر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في نفْسِه بخِفَّةٍ، فقامَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَمشي بيْنَ رجُلَينِ مُستنِدًا عليهما، وهُما: العبَّاسُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ وعليُّ بنُ أبي طالبٍ رضيَ الله تعالى عنهما، ورِجْلاهُ تخُطَّانِ في الأرضِ، يعني: تَعمَلان مِثلَ الخَطِّ في الأرضِ؛ لِثقَلِه ومرضِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا أحسَّ أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بِالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أرادَ أن يَتأخَّرَ، فأشارَ إليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يظَلَّ في مكانِه، وجلَسَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على يَسارِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكان أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه يُصلِّي قائمًا يَقتدي بِصلاةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو جالسٌ، ويَقتدي النَّاسُ بِصلاةِ أبي بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه وهو قائمٌ، فكان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الإمامَ، وكان أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مؤتَمًّا به، وكان يُسمِعُهمُ التَّكبيرَ؛ لضَعفِ صَوتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حينَئذٍ، فكان اقتداؤُهم بصَوتِ أبي بكرٍ، وكان مُبَلِّغًا عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يكُنْ إمامًا للنَّاسِ، فاقتِداءُ أبي بكرٍ والنَّاسِ كلِّهم إنَّما كان بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّما كان أبو بكرٍ يُبلِّغُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التَّكبيرَ؛ ليَتمَكَّنوا مِنَ الاقتِداءِ. وقيل: بل كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إمامًا لأبي بكرٍ، وكان أبو بكرٍ إمامًا للنَّاسِ الَّذين وراءَه، فكانت تلكَ الصَّلاةُ بإمامَينِ.
وفي هذا الحَديثِ: مشروعيَّةُ الأخذُ بالشِّدَّةِ لِمَن جازتْ له الرُّخْصةُ.
وفيه: مشروعيَّةُ الصَّلاةِ جالسًا لِمَن لا يَقْوَى على القِيامِ.
وفيه: الإشارةُ إلى تعظيمِ الصَّلاةِ في الجماعةِ.
وفيه: دَلالةٌ علي أنَّ أبا بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أفضَلُ النَّاسِ بعْدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأَوْلاهم بخِلافتِه، وعلى فضيلةِ عُمرَ بنِ الخطَّابِ بعْدَه.
وفيه: مشروعيَّةُ مُراجَعةُ المَفضولِ للفاضِلِ.
وفيه: الأدبُ مع الكَبيرِ، حيثُ أراد أبو بكرٍ التأخُّرَ عن الصَّفِّ لِمَقامِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.