باب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم20
سنن الترمذى
حدثنا علي بن حجر قال: أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، قال: أتينا خبابا، نعوده وقد اكتوى سبع كيات، فقال: لقد تطاول مرضي، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تمنوا الموت»، لتمنيت
علَّمَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أنَّ الدُّنيا دارُ بلاغٍ إلى الآخرةِ، وأنَّ المسلِمَ الحقَّ هو مَن يأخُذُ منها بقَدْرِ ما يُبلِّغُه إلى رِضا اللهِ والفوزِ في الآخرَةِ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ التَّابعيُّ حارِثةُ بنُ مُضرِّبٍ: "أتَينا خَبَّابًا نَعودُه"، أي: نَزورُه في مرَضِه، وهو خَبَّابُ بنُ الأرَتِّ صاحِبُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فقال خبَّابٌ رَضي اللهُ عنه: "لقد طال سَقَمي"، أي: مرَضي، "ولولا أنِّي سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يقولُ: لا تتَمنَّوُا الموتَ، لَتمنَّيتُه"، وهذا تَصريحٌ بكَراهةِ تَمنِّي الموتِ لِضُرٍّ نزَل؛ مِن مرَضٍ أو فاقَةٍ، أو مِحنةٍ مِن عدُوٍّ، أو نحوِ ذلك مِن مشاقِّ الدُّنيا؛ وذلك لأنَّ الموتَ مقدَّرٌ مِن اللهِ، وفي تَمنِّيه قبلَ وقوعِه اعتِراضٌ على هذا القدَرِ، مع ما في الحياةِ مِن زيادَةٍ لإحسانِ المحسِنِ وعُذْرٍ للمُسيءِ كي يَرجِعَ عن إساءتِه، ويُحسِنَ العمَلَ، وقد جاء في الصَّحيحين عن أنسٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال: "فإنْ كان لا بدَّ متمنِّيًا فليَقُلِ: اللَّهمَّ أحْيِني ما كانت الحياةُ خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي". وهذا الضُّرُّ محمولٌ على الضُّرِّ الدُّنيويِّ، ولكن إنْ وُجِد الضُّرُّ الأُخرويُّ بأنَّ المسلِمَ خَشِي فتنةً في دِينِه لم يَدخُلْ في النَّهيِ، ويُمكِنُ أنْ يُؤخَذَ ذلك مِن روايةِ ابنِ حبَّانَ: "لا يتمنَّينَّ أحدُكم الموتَ لضُرٍّ نزَل به في الدُّنيا"، وقد تمنَّى بعضُ السَّلفِ الموتَ، ودعا به؛ مِثلُ عمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضي اللهُ عنه، وعَلَّله بقولِه:" اللَّهمَّ قد ضَعُفَتْ قوَّتي، وكَبِرَتْ سِنِّي، وانتشَرَتْ رعيَّتي، فاقبِضْني غيرَ مُضيِّعٍ ولا مفرِّطٍ"؛ كما في الموطَّأِ.
وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "إنَّ العبْدَ لَيُؤْجَرُ في نفقَتِه كلِّها"؛ فيكونُ له الأجرُ فيما أنفقَه فيما يتَّفِقُ مع أحكامِ الشَّرعِ، سواءٌ أنفَقه على نفْسِه أو عيالِه أو في سبيلِ اللهِ، "إلَّا في التُّرابِ- أو قال: في البِناءِ-"، والمقصودُ هنا: النَّفقةُ في البِناءِ الَّذي لم يُقصَدْ به وجْهُ اللهِ تعالى، وقد زاد على ما يَحتاجُه لنفْسِه وعيالِه على الوجْهِ اللَّائقِ، فإنَّه ليس له فيه أجرٌ، بل ربَّما كان عليه وِزرٌ؛ فيَنبَغي الاعتدالُ في هذه الأمورِ بقدْرِ الحاجَةِ، على أنَّ حاجةَ كلِّ إنسانٍ تختلِفُ عن حاجةِ الآخَرِ؛ لِاختلافِ الأحوالِ.
وفي صَحيحِ مُسلِمٍ، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال: "فِراشٌ للرَّجلِ، وفِراشٌ لامرأتِه، والثَّالثُ للضَّيفِ، والرَّابعُ للشَّيطانِ"، وليس كلُّ ما زاد منه على الحاجَةِ يَستلزِمُ الإثمَ؛ لأنَّ في بعضِ البِناءِ ما يَحصُلُ به الأجْرُ؛ مثلُ الَّذي يَحصُلُ به النَّفعُ لغيرِ الباني؛ فإنَّه يَحصُلُ للباني به الثَّوابُ.
وفي الحديثِ: النَّهيُ عن تمنِّى الموتِ، وعدمُ الاعتِراضِ على قدَرِ اللهِ.
وفيه: أنَّ النَّفقةَ في وجوهِ الخيرِ عليها أجرٌ، وأنَّ ما أُنفِق فيما لا حاجةَ إليه يكونُ وَبالًا على صاحبِه، وأنَّه قد يَأثَمُ على ذلك.