باب فضل الشهادة في سبيل الله3
سنن ابن ماجه
حدثنا علي بن محمد، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق
عن عبد الله: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} قال: أما إنا سألنا عن ذلك: أرواحهم كطير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك اطلاعة، فيقول: سلوني ما شئتم، قالوا: ربنا ماذا نسألك، ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟! فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا في أجسادنا إلى الدنيا حتى نقتل في سبيلك. فلما رأى أنهم لا يسألون إلا ذلك، تركوا (2)
بيَّن الشَّرعُ فَضيلةَ الجِهادِ وعَظيمَ أجْرِ المجاهِدِين في سَبيلِ اللهِ في الدُّنيا والآخرةِ، وأنَّ للشُّهداءِ مَكانةً عَظيمةً عِندَ اللهِ سُبحانه وتَعالَى، ويُكرَّمون بَدْءًا مِن سَيلانِ أوَّلِ قَطرةٍ مِن دِمائِهم، ثمَّ دَفْنِ أجسادِهم وصُعودِ أرواحِهم ودُخولِهم الجنَّةَ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي مَسْرُوقُ بنُ الأجدعِ أنَّهم سَأَلوا عبدَ الله بنَ مَسْعُودٍ رَضيَ اللهُ عنه عن آيةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، فقال ابنُ مَسْعُودٍ رَضيَ اللهُ عنه: «أمَا إنَّا قد سأَلْنا»، أي: رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «عن ذلك»، أي: عن معنى هذه الآيَةِ، فأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أرواحَ الشُّهداءِ تكونُ في أجوافِ طَيرٍ لَونُها أخضَرُ، وجُعِل لتلكَ الطَّيرِ قَناديلُ، جمْعُ قِنديلٍ، والمرادُ به: أعشاشُ ومَنازِلُ لتلكَ الطُّيورِ، والمرادُ بالعَرشِ، والعَرْشُ: عرْشُ الرَّحمنِ الَّذي استوَى عليه جلَّ جَلالُه، وهو أعْلَى المَخلوقاتِ وأكبرُها وأعظمُها، فتَسرَحُ الطيور وتَرْعَى وتَتنَاوَلُ مِنَ الجنَّةِ، ومِن ثَمَراتِها ولَذَّاتِها حيثُ شاءت، ثُمَّ تَرْجِعُ إلى تلك القَنادِيلِ، فتَسْتَقِرُّ فيها، «فاطَّلَعَ إليهم ربُّهم اطِّلاعَةً»، وأصلُ الاطِّلاعُ: البُدُوُّ والظُّهورُ مِن عُلُوٍّ، وصِفَةُ الاطِّلاعِ للهِ سُبحانه وتَعالَى تَلِيقُ بجَلالِه وكَمالِه ولا تُشبِهُ اطِّلاعَ المَخلُوقِينَ، فقال: «هلْ تَشْتَهُونَ شيئًا؟» وهو أعلَمُ بهم، وهذا السُّؤالُ مُبالَغةٌ في إكرامِهِم وإنعامِهِم، «قالوا: أيَّ شَيءٍ نَشتهِي ونَحْنُ نَسْرَحُ مِن الجنَّةِ حيثُ شِئنا؟» أي: إنَّ النَّعيمَ الَّذي هُم فيه لا يُدرَكُ مِن وَرائهِ نَعيمٌ آخَرُ، فهُم في الجنَّةِ يَأكُلون ويَتمتَّعون على كلِّ حالٍ وفي أيِّ وَقتٍ، فسَأَلهم ربُّهم سُبحانه وتَعالَى هذا السُّؤالَ ثَلاثَ مرَّاتٍ، وفي كلِّ مرَّةٍ يَعرِضُ عليهم أنْ يَطلُبوا ما يَشْتَهونه حتَّى يُلبِّيَه لهم ويَمنَحَهم إيَّاه، فلمَّا رَأَوْا أنَّه عزَّ وجلَّ لن يَترُكَ سُؤالَهم، قالوا: «يا رَبِّ، نُرِيدُ أنْ تَرُدَّ أرواحَنا في أجسادِنا»، الأُولَى: حتَّى نُقتَلَ -أي: نُسْتَشْهَدَ- في سَبِيلِكَ مرَّةً أُخرَى، فلا يَبقَى لهم مُتَمَنًّى ولا مَطْلَبٌ، غيرَ أنْ يَرجِعوا إلى الدُّنيا فيُستَشْهَدُوا ثانيًا؛ لِمَا رَأَوْا بِسَبَبِه مِنَ الشَّرَفِ والكرامةِ، وسَأَلهم سُبحانه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وكان جَوابُهم واحدًا، فلمَّا عَلِمَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ ليْس لهم حاجةٌ مِن الدُّنيا تَرَكَهم ولم يَسأَلْهم: هلْ تَشْتهون شيئًا؟ وتَرَك سُبحانه وتَعالَى السُّؤالَ؛ لأنَّه تَعالَى أراد ما يَشْتَهونه في عالَمِ الجنَّةِ، لا في عالَمِ الدُّنيا.
وفي الحديثِ: فضلُ الجهادِ والشَّهادَةِ في سَبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وفيه: أنَّ أرواحَ الشُّهدَاءِ تُنعَّمُ في الجنَّةَ قبْلَ يومِ القيامةِ.
وفيه: ثُبوتُ الرُّوحِ وبَقاؤُها بعدَ فَناءِ الأبدانِ.
وفيه: تفسيرُ قولِه تَعالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} مِن سُورةِ آل عِمْرانَ.