باب في الإفاضة من عرفة, والصلاة بالمزدلفة
بطاقات دعوية
عن كريب أنه سأل أسامة بن زيد - رضي الله عنه - كيف صنعتم حين ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة فقال جئنا الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمغرب فأناخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته وبال وما قال أهراق الماء ثم دعا بالوضوء فتوضأ وضوءا ليس بالبالغ فقلت يا رسول الله الصلاة فقال الصلاة أمامك فركب حتى جئنا المزدلفة فأقام المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا (1) حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا قلت فكيف فعلتم حين أصبحتم قال ردفه الفضل بن عباس وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي. (م 4/ 73 - 74
الحجُّ هو الرُّكنُ الخامسُ مِن أركانِ الإسلامِ، وقد بيَّنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَناسِكَ الحجِّ بأقوالِه وأفعالِه، ونَقَلَها لنا الصَّحابةُ الكرامُ رَضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ.
وفي هذا الحديثِ يَروي أُسامةُ بنُ زَيْدٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه رَكِبَ خَلْفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَنفِرُ مِن عَرَفاتٍ في حَجَّةِ الوداعِ، وكانت في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهِجرةِ، فلمَّا بَلَغَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الشِّعْبَ الأيسرَ الَّذي هو قَريبٌ مِن المِزْدَلِفةِ أناخَ راحلتَه وجَعَلَها تَقعُدُ على الأرضِ، ونَزَلَ مِن فَوقِها فبالَ، والشِّعبُ: الطَّريقُ بَينَ الجبلَين، ثمَّ جاءه أُسامةُ بنُ زَيدٍ رَضيَ اللهُ عنهما بالماءِ فصَبَّ عليه، فتَوضَّأَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وُضوءًا خَفيفًا؛ وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «ولم يُسبِغِ الوُضوءَ»، والمقصودُ به أنَّه يَستوعِبُ العضوَ بالماءِ، ولا يُكثِرُ الدَّلْكَ، ولا يَزيدُ على مَرَّةٍ مَرَّةٍ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ أصْلَ فِعلِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الإسباغُ، وهو إعطاءُ كُلِّ عُضوٍ حقَّه مِن الماءِ، وغسْلُه ثلاثًا ثلاثًا، كما هو متواترٌ في السُّنَّةِ.
فسَأَلَ أُسامةُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وظَنَّ مِن نُزولِه ووُضوئِه أنَّه سيُؤدِّي صلاةَ المَغربِ، فأخْبَرَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الصَّلاةَ حاضِرةٌ أمامَك مَكانًا عندَ الوُصولِ للمُزدلِفةِ، فرَكِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى أتى المُزْدَلِفةَ، فصلَّى المَغرِبَ والعِشاءَ جمْعَ تَأخيرٍ. والمُزدلِفةُ: اسمٌ للمكانِ الذي يَنزِلُ فيه الحجيجُ بعْدَ الإفاضةِ مِن عَرَفاتٍ، ويَبيتونَ فيه لَيلةَ العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، وفيه المَشعَرُ الحرامُ، وتُسمَّى جَمْعًا، وتَبعُدُ عن عَرَفةَ حوالي (12 كم)، وهي بجِوارِ مَشعَرِ مِنًى.
ثمَّ أخْبَرَ أُسامةُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ الفضْلَ بنَ العبَّاسِ رَضيَ اللهُ عنهما رَكِبَ خلْفَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَبيحةَ لَيلةِ المَبيتِ بالمُزدلِفةِ، وهي صَبيحةُ يَومِ النَّحرِ اليومِ العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، حيث يَتوجَّهُ الحَجيجُ لرَمْيِ الجَمرةِ الكُبرى. وسُمِّيَت المُزدلِفةُ (جَمْعًا)؛ لأنَّها يُجمَعُ فيها بيْن الصَّلاتينِ المغربِ والعِشاءِ، وقيل: وُصِفَت بفِعلِ أهْلِها؛ لأنَّهم يَجتمِعون بها ويَزدَلِفون إلى اللهِ؛ أي: يَتقرَّبون إليه بالوقوفِ فيها.
وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «فرَكِبَ، فلمَّا جاء المزدلِفةَ نزَلَ فتَوضَّأَ، فأسْبَغَ الوُضوءَ، ثمَّ أُقِيمَت الصَّلاةُ، فصَلَّى المغرِبَ، ثمَّ أناخ كلُّ إنسانٍ بَعيرَه في مَنزلِه، ثمَّ أُقِيمَت العِشاءُ فصلَّى، ولم يُصلِّ بيْنهما»، قيل: تَخفيفُه في الوضوءِ الأوَّلِ هناك وإسباغُه هنا؛ لأنَّ الأوَّلَ لم يُرِدْ به الصَّلاةَ، وإنَّما أراد به دَوامَ الطَّهارةِ؛ ليَكونَ مُستصحِبًا للطَّهارةِ في طَريقِه، ولا سيَّما في تلك الحالةِ؛ لكَثرةِ الاحتياجِ إلى ذِكرِ اللهِ حينئذٍ، أو خفَّفَ الوُضوءَ لقِلَّةِ الماءِ حينئذٍ، ولكنْ لمَّا نَزَلَ وأراد الصَّلاةَ أسْبَغَه وأتَمَّه.
وأخْبَر الفضلُ بنُ العَبَّاسِ رَضيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَزَلْ يُلبِّي حتَّى بَلَغَ الجَمرةَ الَّتي بالعَقَبةِ -وهي الجَمرةُ الكُبرَى غَرْبَي مِنًى ممَّا يَلي مكَّةَ- صَبيحةَ يومِ النَّحرِ، وهو اليومُ العاشِرُ مِن ذي الحِجَّةِ، فقَطَعَ التَّلبيةَ حينَ بُلوغِها، وصِيغةُ التَّلبيةِ: «لَبَّيكَ اللَّهمَّ لَبَّيك، لَبَّيك لا شَريكَ لك لَبَّيك، إنَّ الحمْدَ والنِّعمةَ لكَ والمُلْك، لا شَريكَ لك»، ويَبدَأُ وقْتُ التَّلبيةِ عندَ الإحرامِ بالحجِّ.
وفي الحديثِ: مَشروعيَّةُ المَبيتُ بالمُزدلِفةِ لَيلةَ النَّحرِ.
وفيه: مُبادَرةُ الحاجِّ بصَلاتي المغرِبِ والعِشاءِ جمعا أوَّلَ قُدومِه المُزدلِفةَ.
وفيه: تَواضُعُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: مَشروعيَّةُ رُكوبُ اثنَينِ على الدَّابَّةِ إذا كانتْ مُطيقةً لذلك.