باب في فضل عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - 2
بطاقات دعوية
عن خرشة بن الحر قال كنت جالسا في حلقة في مسجد المدينة قال وفيها شيخ حسن الهيئة وهو عبد الله بن سلام قال فجعل يحدثهم حديثا حسنا قال فلما قام قال القوم من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا قال فقلت والله لأتبعنه فلأعلمن مكان بيته قال فتبعته فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة ثم دخل منزله قال فاستأذنت عليه فأذن لي فقال ما حاجتك يا ابن أخي قال فقلت له سمعت القوم يقولون لك لما قمت من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فأعجبني أن أكون معك قال الله أعلم بأهل الجنة وسأحدثك مم قالوا ذاك إني بينما أنا نائم إذ أتاني رجل فقال لي قم فأخذ بيدي فانطلقت معه قال فإذا أنا بجواد (2) عن شمالي قال فأخذت لآخذ فيها فقال لي لا تأخذ فيها فإنها طرق أصحاب الشمال قال وإذا (3) جواد منهج (4) على يميني فقال لي خذ ههنا فأتى بي جبلا فقال لي اصعد قال فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على استي قال حتى فعلت ذلك مرارا قال ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودا رأسه في السماء وأسفله في الأرض في أعلاه حلقة فقال لي اصعد فوق هذا قال قلت كيف أصعد هذا ورأسه في السماء قال فأخذ بيدي فزجل بي (1) فقال فإذا أنا متعلق بالحلقة قال ثم ضرب العمود فخر قال وبقيت متعلقا بالحلقة حتى أصبحت قال فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقصصتها عليه فقال أما الطرق التي رأيت عن يسارك فهي طرق أصحاب الشمال قال وأما الطرق التي رأيت عن يمينك فهي طرق أصحاب اليمين وأما الجبل فهو منزل الشهداء ولن تناله وأما العمود فهو عمود الإسلام وأما العروة فهي عروة الإسلام ولن تزال متمسكا بها حتى تموت. (م 7/ 161 - 162)
كان عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن أحْبارِ اليَهودِ وعُلمائِهم، وأسلَمَ بعْدَ قُدومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدينةِ مُهاجِرًا، وأقامَ الحُجَّةَ على اليَهودِ بأنَّهم قَومٌ بُهتٌ، وشَهِد عليهم بذلك.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي التَّابِعيُّ قَيسُ بنُ عُبَادٍ أنَّه كان جالِسًا في مَسجِدِ المَدينةِ، فدَخَل عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه، وعلى وَجهِه أثَرُ الخُشوعِ، فقال عنه بعضُ الجُلوسِ لمَّا رأَوْه: هذا رَجلٌ مِن أهلِ الجَنَّةِ، وقالوا هذا ممَّا عَلِموه مِن تَبْشيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له بالجنَّةِ، فوقَفَ عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ، فصلَّى رَكعَتَينِ خَفيفَتَينِ، أتى فيهما بفَرائضِ الصَّلاةِ دونَ تَقْصيرٍ، ثُمَّ خرَج مِن المَسجِدِ، فتَبِعَه قَيسٌ، وأخبَرَه بما قيلَ له عنه مِن أنَّه رَجلٌ مِن أهلِ الجنَّةِ، وكأنَّه يَستَفسِرُ عن ذلك منه، فقال عبدُ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه: «واللهِ لا يَنبَغي لأحدٍ أنْ يَقولَ ما لا يَعلَمُ»، وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «سُبحانَ اللهِ! ما كان يَنْبغي لهمْ أنْ يَقولوا ما لَيس لهمْ به عِلمٌ»، فتَعجَّبَ وأنكَرَ عليهم الجَزمُ، ولم يُنكِرْ أصْلَ الإخبارِ بأنَّه مِن أهْلِ الجنَّةِ، وهكذا يكونُ شَأنُ المُراقِبينَ الخائفينَ المُتواضِعِين، وحَدَّثه بسَببِ قَولِهم هذا؛ وذلك أنَّه رَأى نفْسَه في المَنامِ في رَوْضةٍ خَضْراءَ، أي: حَديقةٍ خَضْراءَ، وأنَّها كانت واسِعةً جدًّا وشَديدةَ الخُضرةِ، وكان في وسْطِها عَمودٌ، وكان العَمودُ مُمتَدًّا رَأسيًّا: أسفَلُه في الأرضِ، وأعْلاه في السَّماءِ، وفي أعْلاه عُرْوةٌ، وهي الحَلْقةُ، يقولُ عبدُ اللهِ: فقيلَ: ارْقَ، أي: ارتَفِعْ واصعَدْ عليه، فتَعذَّرَ له أنَّه لا يَستَطيعُ، فأتاني مِنْصَفٌ، وفي رِوايةٍ: «وَصيفٌ» وهو الخادِمُ، فرفَعَ هذا الخادم ثِيابي مِن خَلْفي، فرَقِيتُ حتَّى كنتُ في أعْلى العمودِ، فأخذْتُ بالعُرْوةِ فأمسَكْتُ بها، فقيلَ: استَمسِكْ وبالِغْ في المَسْكِ، فاستَيقَظْتُ وإنَّها لفي يَدي، أي: إنَّ الاسْتيقاظَ كان حالَ الأخْذِ مِن غَيرِ فاصِلٍ، فلمْ يُرِدْ أنَّها بَقيَتْ في يَدِه حالَ يَقَظَتِه، ويُحتَمَلُ أنْ يُريدَ أنَّ أثَرَها بَقيَ في يَدِه بعْدَ الاسْتيقاظِ، كأنْ يُصبِحَ فيَرى يَدَه مَقْبوضةً، فقَصَّ رُؤْياه تلك على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ففسَّرَها له، فقال: «تلك الرَّوْضةُ: الإسْلامُ، وذلك العَمودُ: عَمودُ الإسْلامِ، وتلك العُرْوةُ: عُرْوةُ الوُثْقى»؛ مَأْخوذةٌ مِن الحَبلِ الوَثيقِ المُحكَمِ المَأْمونِ انْقِطاعُه، ثمَّ قال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فأنتَ على الإسْلامِ حتَّى تَموتَ»، وهذه بُشْرى عَظيمةٌ، وشَهادةٌ له أنَّه مِن أهلِ الجَنَّةِ؛ لأنَّ الجنَّةَ إنَّما يَدخُلُها المُسلِمونَ.
وفي الحَديثِ: مَنقَبةٌ لعَبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه، حيث بُشِّرَ بأنَّه سَيظَلُّ على الإسْلامِ طَوالَ حَياتِه.
وفيه: أنَّ الرُّؤْيا الصَّالِحةَ تَكونُ بُشْرى للمؤمِنِ.