باب: في قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج)
بطاقات دعوية
عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر - رضي الله عنه - وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ..) الآية إلى آخرها (3). (م 6/ 36
تَتفاضَلُ الأعمالُ في الأجرِ والثَّوابِ، وقدْ بَيَّن الشَّرعُ فَضائلَ بعضِ الأعمالِ مِن الإيمانِ والجهادِ في سَبيلِ اللهِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي النُّعْمَانُ بنُ بَشِيرٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه كان عندَ مِنْبَرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المسجِدِ النَّبويِّ، وكان هناك ثلاثةُ رجالٍ أَبْدَى كلٌّ مِنهم أَحْسَنَ الأعمالِ وأفضلَها -في رأيِه- يَعْمَلُها على الإطلاقِ؛ فقال الأوَّل، قيل: هو العبَّاسُ بنُ عبْدِ المطَّلِبِ رَضيَ اللهُ عنه: «ما أُبالِي ألَّا أَعْمَلَ عملًا بعدَ الإسلامِ» أي: بعْدَ إيمانِه باللهِ عزَّ وجلَّ، «إلَّا أنْ أَسْقِيَ الحاجَّ» وهذا كِنايةٌ عن كَونِ سِقايةِ الحاجِّ أفضَلَ الأعمالِ عنده، كأنَّه لا يَحتاجُ إلى عمَلٍ آخَرَ بعْدَه، وكانوا قديمًا يَنزِعون الماءَ مِن بِئرِ زمزمَ ويَسقُونَ النَّاسَ، فيَغرِفون بالدِّلاءِ ويَصبُّونَه في الحِياضِ ونحوِها، ويَجعَلونه وَقفًا للنَّاسِ، وقال الثَّاني -قيل: هو عُثمانُ بنُ طَلْحةَ، أو شَيبةُ بنُ عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنهما-: «ما أُبالِي ألَّا أَعْمَلَ عملًا بعدَ الإسلامِ، إلَّا أن أَعْمُرَ المسجِدَ الحرامَ»، وقال الثَّالِثُ -قيل: هو علِيُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه-: الجِهادُ في سَبِيلِ الله أفضلُ مِمَّا قُلتُم، فَزَجَرَهم ونَهاهم عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه عن رَفعِ أصواتِهم عندَ مِنْبَرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأخبرهم أنَّ اليوم هو يومُ الجُمُعَة -أو هو مِن قَولِ أحدِ الرُّواةِ، أرادَ به تَعيينَ اليومِ الَّذي حَدَث فيه الاختلافُ- وأنَّه عَقِبَ صَلاةِ الجمعةِ سيَدخُلُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيَسْتفتِيه ويَعرِضُ عليه فيما اختَلَفْتُم فيه؛ ليَتبيَّنَ الرَّاجحُ مِن الأقوالِ، فأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19]، والمعنى: أجعَلْتُم العملَ على سِقايةِ الحاجِّ وعلى عِمارةِ المسجِدِ الحرامِ مِثلَ مَن آمَنَ باللهِ، ولم يُشرِكْ به أحدًا، وآمَنَ بيَومِ القيامةِ، وجاهَدَ بنَفسِه ومالِه لتَكونَ كَلمةُ اللهِ هي العُليا، وكلمةُ الَّذين كَفَروا السُّفلى؟! أجَعَلْتُموهم سَواءً في الفضلِ عندَ اللهِ؟! لا يَسْتوون أبدًا عندَ اللهِ، واللهُ لا يُوفِّقُ الظَّالِمين بالشِّركِ، ولوْ كانوا يَعمَلون أعمالَ خيرٍ كسِقايةِ الحاجِّ. وعليه؛ فإنَّ الجِهادَ في سَبِيل اللهِ أفضلُ مِن سِقايَةِ الحاجِّ ومِن عِمَارَةِ المسجدِ الحرامِ، وقدْ نَصَّ على تَعيينِ أفضليَّةِ الجهادِ بقولِه بعْدَه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20]، فكانت الآيةُ مُصدِّقةً لكلامِ الرَّجلِ الثَّالثِ منهم.
وفي الحديثِ: مَنقبَةٌ لعُمرَ رَضيَ اللهُ عنه، وحِرصُه على توقيرِ مَسجدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومكان مِنبَرِه أنْ يُرفَعُ فيه الصَّوتُ.
وفيه: سببُ نُزولِ قولِه تَعالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...} مِن سُورةِ التَّوْبةِ.
وفيه: فضلُ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ.