باب في قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}
بطاقات دعوية
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} قال فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} قالوا {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال نعم {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال نعم {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال نعم {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال نعم (1). (م 1/ 80 - 81)
كانَ الصَّحابَةُ رَضيَ اللهُ عَنهم يُسارِعونَ في الاستِجابةِ لأوامرِ اللهِ عزَّ وجلَّ وأوامرِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفي هذا الحديثِ يَروي أبو هريرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا نزَلَت على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ آيةُ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خَلقًا ومُلكًا، امتلاكًا حقيقيًّا، وتَصرُّفًا كامِلًا، وامتلاكُ النَّاسِ في الدُّنيا للأشياءِ هو امتلاكٌ صُوريٌّ مؤقَّتٌ، {وَإِنْ تُبْدُوا} فتُظهِروا وتُعلِنوا {مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} ودَوَاخِلِكم {أَوْ تُخْفُوهُ} فتُسِرُّوه وتُضمِرُوه {يُحَاسِبْكُمْ} أي: يُجازِكم {بِهِ اللَّهُ} يومَ القيامةِ، وهو الذي لا تَخفى عليه خافيةٌ، {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} مِنكم بالفضلِ والرَّحمةِ، {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} مِنكم بالحقِّ والعدلِ، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] لا يَحُولُ دونَ غُفرانِه أو عِقابِه شَيءٌ. فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ وسَمِعَها النَّاسُ اشتَدَّ ذلك على أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّها تُنذِرُ بالمُحاسَبةِ على ما في النَّفسِ، وعلى خَطَراتِ القُلوبِ؛ فأهمَّهمُ الأمرُ وغمَّهم، وأزعَجَهم هذا الحكمُ وأقضَّ مَضاجِعَهم، فذهبَ جماعةٌ منهم إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ برَكوا جُثِيًّا على الرُّكَبِ، وسكَنَت أعضاؤُهم، وخشَعَت أبصارُهم، كما هي عادةُ الخائفِ الوَجِلِ، فقالوا: «أيْ رَسولَ اللهِ»، و«أيْ» أداةُ نِداءٍ للقَريبِ، كُلِّفنا قبْلَ ذلك مِنَ الأعمالِ ما نُطيقُ الإتيانَ به؛ مِثلَ الصَّلاةِ والصِّيامِ والجِهادِ والصَّدقةِ، ولكن قد أُنزِلَت عليك هذه الآيةُ ولا نُطيقُها؛ لاعتقادِهم أنَّهم مُؤاخَذون بما لا قُدرةَ لهُم على دَفعِه مِنَ الخواطرِ الَّتي لا تُكتسَبُ، ولم يَرضَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا مِنهم، وخَشيَ أن يَفتحَ عليهم بابَ الرِّضا ببعضِ الأحكامِ وعدمِ الرِّضا بالبعضِ الآخَرِ، فقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتُريدون أن تَقُولوا كما قالَ أهلُ الكتابَينِ منَ اليهودِ والنَّصارى من قَبلِكم حينَ قالوا بشأنِ تكاليفِهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93، النساء: 46]، فالأفضلُ لكم ألَّا تَقُولوا: شقَّ علينا كذا، بل قُولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، فلمَّا تَكلَّمَ بها المُسلِمون وانقادَت بالاستسلامِ بها ألسنتُهم وانصاعت نُفوسُهم لها، ولأمرِ ربِّهم فيها؛ أنزَلَ اللهُ في عَقِبِ نُزولِها من غيرِ فاصلٍ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} وهذا إخبارٌ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك، وهو الإيمانُ بالقُرآنِ، {وَالْمُؤْمِنُونَ} عطفٌ على الرَّسولِ، ثُمَّ أخبَرَ عنِ الجَميعِ فقالَ: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]؛ فالمُؤمِنون يُؤمِنون بأنَّ اللهَ واحدٌ أحدٌ، فردٌ صَمَدٌ، لا إلهَ غيرُه، ولا ربَّ سِواه، ويُصدِّقون بجميعِ الملائكةِ والأنبياءِ والرُّسلِ والكُتبِ المُنزَّلةِ مِنَ السَّماءِ على عِبادِ اللهِ المُرسَلين والأنبياءِ، لا يُفرِّقون بين أحَدٍ منهم، ولا يؤمِنون ببعضٍ ويَكفرون ببعضٍ، بلِ الجميعُ عِندَهم صادِقون بارُّونَ، راشِدونَ مَهديُّون، هادُون إلى سُبلِ الخيرِ، وإن كانَ بعضُهم يَنسَخُ شَريعةَ بعضٍ بإذنِ اللهِ، حتَّى نُسِخَ الجميعُ بشَرعِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمِ الأنبياءِ والمُرسَلين، الَّذي تَقومُ السَّاعةُ على شَريعتِه، {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، أي: سَمِعنا قولَك يا ربَّنا، وفَهِمناه، وقُمنا به، وامتثَلنا العملَ بمُقتضاه، {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} وهذا سُؤالٌ للمغفرةِ والرَّحمةِ واللُّطفِ، {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، فإليك المَرجِعُ والمآبُ يومَ يَقومُ الحسابُ، فلمَّا فعَلوا ذلك، وقالوا ما أُمِروا بقولِه من إظهارِ السَّمعِ والطَّاعةِ لأوامرِ اللهِ؛ نَسَخَها اللهُ تَعالَى، فأثبَتَ الآيةَ خطًّا في المصحفِ ونسَخَ الحُكمَ، فأنزَلَ اللهُ تخفيفًا عنهم فقالَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} مما تسَعُه قُدرتُها وطاقتُها وجُهدُها، {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من ثوابِ الخيرِ، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من وِزرِ الشَّرِّ وإثمِه، ولا يُؤاخَذُ أحَدٌ بذَنبِ أحدٍ، ولا بما لم يَكسِبه ممَّا وَسوسَته به نفسُه، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} بالعِقابِ {إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فترَكنا الصَّوابَ، لا عن عمدٍ، كما آخَذتَ به مَن قَبلَنا، فاستجابَ اللهُ سُبحانَه لهُم فقالَ: «نَعَمْ»، أي: قد فعَلتُ، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} منَ الأمورِ التي يَثقُلُ علينا حَملُها، {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} من بَني إسرائيلَ وغيرِهم، فاستجابَ اللهُ لهُم وقالَ: «نَعَمْ»، أي: قد فعَلتُ، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} منَ التَّكاليفِ والبلاءِ، قالَ: «نَعَمْ»، {وَاعْفُ عَنَّا} فامحُ عنَّا ذُنوبَنا، {وَاغْفِرْ لَنَا} واستُر علينا فيما بيننا وبين عِبادِك، فلا تُظهِرهم على سيِّئاتِنا، وتَجاوَز عنها، {وَارْحَمْنَا} وجُد علينا بالرَّحمةِ حتَّى لا نَقَعَ في ارتكابِ محظورٍ، أو تَهاوُنٍ في أداءِ مأمورٍ، {أَنْتَ مَوْلَانَا}، أي: سيِّدُنا ومُتولّي أمرِنا؛ {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] بإقامةِ الحُجَّةِ والغلَبةِ في قِتالِهم؛ فإنَّ شأنَ المَولى أن ينصُرَ مَواليَه على الأعداءِ، فاستجابَ اللهُ لهُم، فقالَ: «نَعَمْ»، أي: قد فعَلتُ
وهذا من عَظيمِ فَضلِ اللهِ على المؤمِنينَ الذين يَخضَعونَ لأمرِه، ويُسلِّمون لحُكمِه، أمَّا الذين قالوا: سَمِعنا وعَصَينا، فقد حَمَلَ اللهُ عليهمُ الإثمَ والذَّنبَ وعاقَبَهم به في الدُّنيا قَبْلَ الآخِرةِ
وقد أكرمَ اللهُ هذه الأمَّةَ بما لم يُكرِم به مَن قبلَها، وثَبَّتَ إيمانَ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم، وأحسَنَ إليهم، وأثنَى عليهم بقولِه: {آمَنَ الرَّسُولُ بما أُنْزِلَ إلَيْهِ من رَبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بيْنَ أحَدٍ من رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ} [البقرة: 285]
وفي الحديثِ: شِدَّةُ تَعظيمِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم لأمرِ اللهِ تَعالَى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفيه: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالَى لا يُحمِّلُنا ما لا طاقةَ لنا به، ولا يُكلِّفُنا إلَّا وُسعَنا، وأنَّ الوَساوسَ الَّتي تَجُولُ في صُدورِنا إذا لم نَركَنْ إليها، ولم نَطمئنَّ إليها، ولم نَأخُذْ بها -فإنَّها لا تَضُرُّ
وفيه: أنَّ اللهَ تَجاوَزَ عنِ الأمَّةِ ما حدَّثَت به أنفُسَها ما لم تتكلَّم أو تعمَل به
وفيه: ثُبوتُ النَّسخِ في القرآنِ الكريمِ، وأنَّ منَ القرآنِ ما يُقرَأُ ولكن نُسِخَ حُكمُه فلا يُعمَلُ به