باب ما جاء في عذاب القبر1
سنن الترمذى
حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قبر الميت - أو قال: أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له، نم، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولون، فقلت مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " وفي الباب عن علي، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والبراء بن عازب، وأبي أيوب، وأنس، وجابر، وعائشة، وأبي سعيد، كلهم رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر.: «حديث أبي هريرة حديث حسن غريب»
عذابُ القَبرِ ونَعيمُه قد ثبَت بالكِتابِ وبالسُّنَّةِ، وأجمعَتْ على ثُبوتِه الأمَّةُ؛ فهو مَنقولٌ إلينا بالتَّواترِ؛ فعلى المُسلِم أن يؤمِنَ به، وأن يستعيذَ باللهِ تعالى مِن فتنةِ القبرِ وعذابِه.
وفي هذا الحديثِ يقولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إذا قُبِرَ الميِّتُ" بصيغةِ المفعولِ، أي: أُدخِلَ الميِّتُ قبرَه ودُفِنَ فيه، "أو قال" رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أحَدُكم"، والشَّكُّ مِن الرَّاوي، "أتاه"، أي: الميِّتَ، "مَلَكانِ" وهما اللَّذانِ سيَمتحِنانِ العبدَ في قبرِه، وصِفتُهما أنَّهما "أسوَدانِ"، أي: لونُهما أسوَدُ، "أزرقانِ"، أي: عيناه زَرْقاوانِ، وإنَّما يبعثُهُما اللهُ على هذه الصِّفةِ؛ لِمَا في السَّوادِ وزُرقةِ العينِ مِن الهولِ والوَحشةِ، ويكونُ خوفُهُما على الكُفَّارِ أشدَّ؛ ليتحيَّروا في الجوابِ، وأمَّا المُؤمنون فلهم في ذلك ابتلاءٌ، فيُثبِّتُهم اللهُ، فلا يخافون، ويأمَنونَ، جزاءً لخوفِهم منه في الدُّنيا، "يقال" في التَّسميةِ، "لأحدِهما"، أي: أحَدِ الملَكينِ: المُنكَرُ، "والآخَرِ"، أي: ويُقالُ لِلملَكِ الآخَرِ: النَّكيرُ، "فيقولانِ" عند امتحانِهما للميِّتِ: "ما كنتَ تقولُ" وتُقِرُّ وتَعتقِدُ، "في هذا الرَّجلِ"، يَعني النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؟ "فيقولُ" الميِّتُ المؤمِنُ "ما كان يَقولُ"، أي: ما كان يَقولُ ويعتقِدُ ويُقِرُّ به قبلَ الموتِ: "هو عبدُ اللهِ"، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن عبادِ اللهِ تعالى وخَلْقِه، وهو أشرفُ خَلْقِ اللهِ تعالى وأَكرمُهم عليه سُبحانَه، "ورسولُه" أرسَله اللهُ تعالى للنَّاسِ كافَّةً بشيرًا ونذيرًا، وختَم به النَّبيِّين.
ثمَّ يقولُ الميِّتُ تأكيدًا لقولِه: "أشهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللهُ"، أي: أعلَمُ وأعتقِدُ أنَّه لا مَعبودَ بحقٍّ إلَّا اللهُ، "وأنَّ"، أي: وأشهَدُ أنَّ "محمَّدًا عبدُه ورسولُه" وأفضلُ خَلْقِه، "فيقولانِ"، أي: الملَكانِ: "قد كنَّا نعلَمُ" بإخبارٍ مِن اللهِ تعالى لنا، أو بمُشاهَدةِ أثَرِ ذلك عليك، "أنَّك تقولُ هذا"، أي: ما أقرَرْتَ به مِن الوَحْدانيَّةِ وإثباتِ الرِّسالةِ والعُبوديَّةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، ثمَّ "يُفسَحُ" بصيغةِ المفعولِ، أي: يُوسِّعُ اللهُ له، أو يأمُرُ الملائكةَ بأن تُوسِّعَ، "له"، أي: لذلك الميِّتِ المُقرِّ بالوَحْدانيَّةِ والرِّسالةِ، "في قبرِه"، ومِقدارُ هذه التَّوسِعةِ "سَبْعون ذِراعًا" طولًا، "في سَبعين" ذِراعًا عَرْضًا، "ثمَّ" بعد ذلك، "يُنوَّرُ" بصِيغةِ المفعولِ، أي: يُنوِّرُ اللهُ تعالى، أو يأمُرُ مَلائِكتَه بأن تُنوِّرَ "له"، أي: لهذا الميِّتِ، "فيه"، أي: في قبرِه الَّذي وُسِّعَ عليه بأن يُجعَلَ فيه النُّورُ، ويكونَ كالقَمرِ ليلةَ البَدْرِ، "ثمَّ" بعد ذلك، "يُقال له"، أي: تقولُ الملائكةُ لهذا الميِّتِ: "نَمْ" وهو أَمْرٌ مِن النَّومِ، "فيقولُ" هذا الميِّتُ المُقرُّ بالوَحْدانيَّةِ والرِّسالةِ: "أُريدُ أنْ أَرجِعَ إلى أهلي فأُخبِرُهم" بحالي فيَفْرَحوا لي، وقيل: هذا للاستفهامِ، أي: هل أرجِعُ إلى أهلي...إلخ؟ "فيقولانِ"، أي: الملَكانِ له: "نَمْ كنَومةِ"، أي: مِثلَ نَوْمةِ "العَرُوسِ"، ويُطلَقُ على الذَّكَرِ والأُنثى في أوَّلِ اجتماعِهما معًا، "الَّذي لا يوقِظُه" مِن لذَّتِه وطِيبِ نَوْمِه وعَيْشِه وفرَحِه، "إلَّا أحَبُّ أهلِه إليه"، وذلك غَداةَ ليلةِ زِفافِه، فيَظَلُّ هذا العبدُ على هذه الحالةِ، "حتَّى يبعَثَه اللهُ" تعالى يومَ القيامةِ، "مِن مَضْجَعِه ذلك" ويُخرِجَه مِن قبرِه.
ثمَّ قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "وإنْ كان" هذا الميِّتُ الَّذي دُفِن "مُنافقًا"، يُظهِرُ الإيمانَ ويُبطِنُ الكفرَ، "قال" بعد سؤالِ الملَكينِ له: "سمِعْتُ النَّاسَ يقولون" قولًا، وهو أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، "فقُلْتُ مِثلَه"، أي: مِثلَ هذا القولِ دُونَ أنْ أُقِرَّ به وأعترِفَ، "لا أدري" هل هو نبيٌّ حقًّا أم لا، "فيقولانِ"، أي: يقولُ له الملَكانِ: "قد كنَّا نعلَمُ" بإخبارٍ مِن اللهِ تعالى لنا، أو بمشاهدةِ أثَرِ ذلك فيك، "أنَّك تقولُ ذلك" القولَ، وأنت مُنافِقٌ لا تَدْري ما هو، "فيُقال"، أي: يقولُ اللهُ تعالى أو يأمُرُ الملائكةَ أن تقولَ، "للأرضِ: التَئِمي عليه"، أي: انضَمِّي واجتَمِعي وانزَوِي عليه، "فتلتَئِمُ" الأرضُ "عليه، فتَختلِفُ" مِن شِدَّةِ الضَّغطةِ عليه والالتئامِ "أضلاعُه"، وهي عِظامُ الجَنْبِ، فتَزولُ عن هَيئتِها الَّتي كانتْ عليها، "فلا يزالُ" هذا الميِّتُ المنافقُ "فيها"، أي: في تلك الحالةِ، أو في الأرضِ، "مُعذَّبًا" بجَميعِ أنواعِ عَذابِ القبرِ، "حتَّى يبعَثَه اللهُ" تعالى يومَ القيامةِ، "مِن مَضْجَعِه ذلك" ويُخرِجَه مِن قبرِه.
وفي الحديثِ: بيانُ أنَّ مَن صَدَق في إيمانِه في الدُّنيا؛ فإنَّ الله تعالى يُثبِّتُه عندَ فِتنةِ القبرِ.
وفيه: عِلمُ الملائكةِ ببَعضِ ما قَدَّرهُ اللهُ تعالى وكَتَبه على عبدِه.