باب يزفون النسلان في المشي
بطاقات دعوية
قال ابن عباس: أول ما اتخذ النساء المنطق (12) من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء (وفي رواية: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان؛ خرج 4/ 116) بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى [قدم مكة، فـ] وضعهما عند البيت (13) عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعها هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه (وفي رواية: شنة فيها) ماء، [فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها على صبيها]، ثم قفى إبراهيم منطلقا [إلى أهله]، فتبعته أم إسماعيل، [حتى لما بلغوا كداء؛ نادته من ورائه]، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها (وفي رواية: إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله)، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه؛ استقبل بوجهه البيت (14)، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه، فقال: {ربنا (15) إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك} حتى بلغ: {يشكرون}.
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، [ويدر لبنها على صبيها]، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط.
[قالت: لو ذهبت، فنظرت لعلي أحس أحدا، قال:] فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي؛ رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود (16) حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا.
[ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل؟ (تعني: الصبي)، فذهبت، فنظرت، فإذا هو على حاله؛ كأنه ينشغ للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت، فلم تحس أحدا]؛ ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"فذلك سعي الناس بينهما"، فلما أشرفت على المروة، سمعت صوتا، فقالت: صه (17) - تريد: نفسها- ثم تسمعت، فسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث (وفي رواية: فقالت: أغث إن كان عندك خير)، فإذا هي بالملك (وفي رواية: فإذا جبريل) عند موضع زمزم، فبحث بعقبه [هكذا، وغمز عقبه على الأرض]، حتى ظهر الماء، [فدهشت أم إسماعيل]، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف.
قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم- أو قال: لو لم تغرف من الماء (وفي رواية: لولا أنها عجلت) - لكانت زمزم عينا معينا (وفي رواية: لو تركته كان الماء ظاهرا) ". قال: فشربت [من الماء]، وأرضعت ولدها (وفي رواية: ويدر لبنها على صبيها)، فقال الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله يبني (18) هذا الغلام وأبوه، فإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله.
فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم- أو أهل بيت من جرهم-
مقبلين من طريق كداء (*)، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا (19)، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جريين؛ فإذا هم بالماء، فرجعوا، فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم؛ ولكن لا حق لكم في الماء.
قالوا: نعم.
قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"فألفى (20) ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام، وتعلم العربية منهم (21)، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك؛ زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل.
[ثم إنه بدا لإبراهيم، فقال لأهله: إني مطلع تركتي، قال:] فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، [فجاء فسلم]، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته
عنه؛ فقالت: خرج يبتغي (وفي رواية: ذهب يصيد) لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل؛ كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم؛ جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك؟ فأخبرته، وسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم؛ أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى.
فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم [إنه بدا لابراهيم، فقال لأهله: إني مطلع تركتي. قال: فـ] أتاهم بعد، فلم يجده، فدخل على امرأته، فسألها عنه؟ فقالت: خرج ببتغي (وفي رواية: ذهب يصيد) لنا، [فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟] قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عز وجل، فقال: ما طعامكم؛ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم! بارك لهم في اللحم والماء".
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" [بركة بدعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -]، ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه". قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه (22)، قال: فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه
فلما جاء إسماعيل؛ قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم؛ أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك؟ فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم؛ هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلا (23) له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ (وفي رواية: إنه قد أمرني أن تعينني عليه) قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني [له] ها هنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.
قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، [وضعف الشيخ على نقل الحجارة]؛ جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}
كانت سِيرةُ نَبيِّ اللهِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مَليئةً بالحِكَمِ والمَواعظِ والأحكامِ والمواقفِ التي يَتعلَّمُ منها كلُّ مُؤمنٍ وكلُّ إنسانٍ حَكيمٍ.
وفي هذا الحديثِ يَحكي عبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ أوَّلَ مَن اتَّخَذَ مِن النِّساءِ «المِنْطَقَ» -وهو قِطْعةٌ مِن قُماشٍ تَشُدُّ بِها المَرأةُ وَسَطَها، وتَجُرُّ أسفَلَه عَلى الأرضِ- كانَت هاجَرَ أُمَّ إسْماعيلَ عليه السَّلامُ، وسَبَبُه أنَّ سارةَ كانت قَدْ وهَبَتْ هاجَرَ لإِبْراهيمَ عليه السَّلامُ، فَلمَّا وَلَدَتْ إسْماعيلَ غارَتْ منها، فَشَدَّت هاجَرُ المِنْطَقَ على وَسَطِها، وصارَتْ تَجُرُّ أسْفَلَه على الأرضِ؛ لِتُخفيَ آثارَ أقدامِها على سارةَ، ثمَّ أمَر اللهُ تعالَى إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنْ يَذهَبَ بهاجَرَ وإسماعيلَ إلى مَكَّةَ، فَفَعَلَ، ولَم يَكُن هُناكَ بَيْتٌ ولا بِناءٌ ولا زَرْعٌ ولا ماءٌ، فوَضَعَها تَحْتَ شَجرةٍ هُناكَ فَوْقَ مَكانِ زَمْزَمَ، وكانَ إسْماعيلُ رَضيعًا، ومَكَّةُ صَحْراءَ قاحِلةً، وتَرَكَ لها جِرابًا -وهو وِعاءٌ مَصنوعٌ مِن جِلدٍ- فيه بَعضُ التَّمْرِ وسِقاءَ ماءٍ، «ثُمَّ قَفَّى إبْراهيمُ مُنْطَلِقًا»، أي: عاد راجِعًا إلى الشَّامِ، فسَأَلَتْه هاجَرُ: أينَ تَذهَبُ وتَترُكُنا بِهذا الوادي الَّذي لا إِنْسَ فيه ولا شَيءَ؟ وأعادَت السُّؤالَ مِرارًا، فَلَمَّا لَم يُجِبْها، سَألَتْه: هَلْ أمَرَك اللهُ بذَلِكَ؟ فَأجابَها: نَعَم، فذكَرَت أنَّه ما دامَ اللهُ سُبحانَه قَدْ أمَرَك بذلِكَ، فَلَن يُضَيِّعَنا.
فمَشى إبْراهيمُ عليه السَّلامُ، فلمَّا وَصَلَ إلى الثَّنيَّةِ -وهي الطَّريقُ العالي في الجَبَلِ، ومَكانُها أعْلى مكَّةَ المُكرَّمةِ- تَضَرَّعَ إلى اللهِ تعالَى مُتَوجِّهًا إلى بَيتِه الحَرامِ، داعيًا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}، لا نَباتَ فيه {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}، أي: إنَّما جَعَلْتَه مُحَرَّمًا؛ ليَتَمَكَّن أهْلُه مِن إقامةِ الصَّلاةِ عِندَه، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، فاجْعَلْ جَماعاتٍ مِن النَّاسِ تَأتيهم وتَأنَسُ بهم وتُقيمُ معهم، {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، أي: ليَشكُروك على ما رزَقْتَهم ويَكونَ عَونًا لهم عَلى طاعتِك.
وجَعَلَتْ هاجَرُ تُرضِعُ إسْماعيلَ عليه السَّلامُ، وتَشْرَبُ مِن ذلك الماءِ الَّذي في الوِعاءِ، حتَّى إذا نَفِدَ ما في السِّقاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابنُها، وجَعَلَتْ تَنظُرُ إليه «يَتَلَوَّى»، أي: يَتَلَفَّتُ ويَتألَّمُ ويُحرِّكُ جَسَدَه، أو «يَتَلَبَّطُ»، أي: يُحرِّكُ لِسانَه، ويَكادُ يَموتُ مِن شِدَّةِ العَطشِ، فلَمْ تُطاوِعْها نَفْسُها أنْ تَراه عَلى تِلْكَ الحالةِ، فانْطَلَقَتْ كَراهيةَ أنْ تَنظُرَ إليه وهو عَلى وَشْكِ أنْ يَموتَ مِن العَطشِ، ثمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإنْسانِ المُتعَبِ تَبحَثُ عَن الماءِ بيْنَ جَبلَي الصَّفا والمَرْوةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَشَرَعَ اللهُ لِلنَّاسِ السَّعْيَ في الحَجِّ مِن أجْلِ ذلكَ. فلَمَّا أشْرَفتْ وقارَبَت عَلى جبَلِ المَرْوةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقالت: «صَهٍ» تُريدُ نَفْسَها، كأنَّها طَلَبَتْ مِن نَفْسِها السُّكوتَ؛ لِكَي تَتعَرَّفَ عن مَصدَرِ الصَّوتِ، ومِن أيْنَ أتى؟ ثمَّ أنْصَتَت وتَسمَّعَت، فسَمِعَتْ أيْضًا الصَّوْتَ مَرَّةً أُخرى، فَقالت: قَدْ أسْمَعتَ إنْ كانَ عِنْدَك «غِواثٌ»، يَعْني: قَدْ سَمِعتُ صَوتَك، فإنْ كانَ عِنْدَك ما يُغيثني فَأغِثْني. فَإِذا هيَ بالمَلَكِ -وهو جِبريلُ عليه السَّلامُ- عِنْدَ مَكانِ زَمْزَمَ، فبَحَثَ بِعَقِبِه، أي: حَفَرَ أو ضَرَبَ في الأرضِ بطَرَفِ رِجلِه أو جَناحِه، وهو كِنايةٌ عن سُهولةِ إخراجِ الماءِ، فجَعَلَتْ تُحَوِّضُه، وتَقولُ بيَدِها هَكَذا، أي: فَصارَتْ تُحيطُه بالتُّرابِ وتَجْعَلُه حَوْضًا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إسْماعيلَ، لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أوْ قالَ: لو لَمْ تَغْرِفْ مِن الماءِ- لكَانتْ زَمْزَمُ عَينًا مَعِينًا»، أي: عَيْنًا جاريةً عَلى وجْهِ الأرضِ. فَقالَ لها المَلَكُ: لا تَخافوا الضَّياعَ والهَلاكَ؛ لِأنَّكم تَحْتَ رِعايةِ اللهِ تَعالى، وإنَّ هذا المكانَ هو مكانُ بَيْتِ اللهِ، وسيَبْنِيه هذا الغُلَامُ وأبوهُ إبراهيمُ عليهما السَّلامُ.
وكانَ البَيْتُ الحرامُ مُرتفِعًا مِن الأرْضِ كالرَّابيةِ -وهي ما ارتفَعَ مِن الأرضِ-؛ وذلك بسَببِ أنَّ السُّيولَ كانت تَتوالى عليه، فتَأخُذُ مِن جَوانِبه حتَّى قلَّ بِناؤه، ثمَّ مَرَّ بذلكَ المَكانِ، أو بالقُربِ مِنه جَماعةٌ مُسافِرونَ مِن قَبيلةَ جُرْهُمَ مَرُّوا مِن طَرِيقِ كَدَاءٍ، وهي بِأعْلى مَكَّةَ، فَرَأوْا طَيْرًا «عائفًا»، أي: يَتَرَدَّدُ على الماءِ ويَحُومُ، فعَرَفوا أنَّ بِهذا الوادي ماءً، وكانَ عَهْدُهم به أنَّه وادٍ لم يكُنْ به ماءٌ ولا زَرْعٌ، فَأرْسَلوا رجُلًا أو رجُلَينِ؛ ليَكشِفَا لهم عَن الحَقيقةِ، فَرَجَعَ إليهم رُسُلُهم يُخبِرونهم عَن وُجودِ ماءٍ في تلك البُقْعةِ، فَأقْبَلوا على أُمِّ إسْماعيلَ، واستَأذَنوا منها بالنُّزولِ في جِوارِها، فأذِنَتْ لهم، عَلى ألَّا يَكونَ لهم حَقُّ التَّمَلُّكِ في ذلك الماءِ، وإنَّما لهم أنْ يَشرَبوا مِنه فَقَطْ، وسَكَنَتْ جُرْهُمُ مَكَّةَ منذُ ذلك العَهْدِ، واسْتَأْنَسَتْ هاجرُ بسُكْناهم مَعَها، وكَبِرَ إسماعيلُ عليه السَّلامُ في هذه القَبيلةِ، وتَعَلَّمَ منهم اللُّغةَ العَرَبيَّةَ، ثمَّ لَمَّا بَلَغَ الرُّشدَ زَوَّجوه امْرَأةً منهم اسْمها عِمارةُ بِنْتُ سَعْدٍ، ثمَّ ماتَتْ هاجرُ أُمُّ إسْماعيلَ عليه السَّلامُ.
فجاءَ إبْراهيمُ بعْدَما تَزَوَّجَ إسْماعيلُ عليهما السَّلامُ، يُطالِعُ تَرِكتَه، أي: يَتَفَقَّدُ حالَ أهْلِه ووَلَدِه، فلمْ يَجِدْ إسْماعيلَ عليه السَّلامُ في بَيتِه، فَسَألَ امْرَأتَه عَنْه، ولم تَعرِفُ أنَّه إبراهيمُ أبو إسماعيلَ عليهما السَّلامُ، فَقالت: خَرَجَ يَبْتَغي لَنا، أي: يَطلُبُ لَنا الرِّزْقَ، ثمَّ سَألَها عَن عَيْشِهم وحالتِهم، فَقالت: نَحْنُ بِشَرٍّ -ضِدُّ الخيرِ-، نَحْنُ في ضِيقٍ وشِدَّةٍ، وجَعَلَت تَشْكو إليه مَعيشَتَهم، فقال لها إبراهيمُ عليه السَّلامُ: إذا جاءَ زَوْجُك فاقْرَئي عليه السَّلامَ، وقُولي له: يُغَيِّرْ عَتبةَ بابِه، فالعَتَبةُ كِنايةٌ عن المرأةِ، والبابُ كِنايةٌ عن البَيتِ، فلَمَّا جاءَ إسْماعيلُ عليه السَّلامُ -وكانَ قَدْ أحَسَّ في نَفْسِه أنَّه جاءَها أحَد- سَألَها قائِلًا: هَلْ جاءَكم مِن أحَدٍ؟ قالت: نَعَمْ؛ جاءَنا شَيْخٌ كَذا وكَذا، تَصِفُه له، وأخْبَرَتْه بِما حَدَثَ بيْنهما. فقالَ: ذاكَ أبي، وقَدْ أمَرَني أنْ أُفارِقَك، أي: أُطَلِّقَك، فالْحَقي بِأهلِكِ، أي: أنْتِ طالِقٌ، فاذْهَبي إلى أهْلِكِ، ثمَّ تَزَوَّجَ إسماعيلُ عليه السَّلامُ منهم امْرَأةً أُخرى، ثمَّ أتى إبْراهيمُ عليه السَّلامُ بعْدَ مُدَّةً مِن الزَّمَنِ، فلَم يَجِدِ ابنَه إسماعيلَ في بَيتِه، فدَخَلَ عَلى امْرَأتِه، فسَألَها عَنْه، فقالت: خَرَجَ يَسْعى في طَلَبِ الرِّزقِ. قالَ: كَيْفَ أنْتُم، وسَألَها عَن عَيْشِهم وحالِهِم، فَقالت: نَحْنُ بِخَيْرٍ وفي نِعمةٍ مِن اللهِ وسَعةٍ في الرِّزقِ، وأثْنَت عَلى اللهِ سُبحانَه، فحَمِدَت رَبَّها وشَكَرَتْه؛ لأنَّها كانت راضيةً بِما قَسَمَ لها، وذلك شَأْنُ المَرْأةِ الصَّالِحةِ، فَسَألَها عَن طَعامِهم وشَرابِهم الَّذي يَعيشونَ عليه، فذَكَرَتْ أنَّ طَعامَهم اللَّحْمُ، وشَرابَهم الماءُ. فَدَعا لهم بالبَرَكةِ في اللَّحْمِ والماءِ، فَكانوا يَقْتَصِرونَ عليهما دونَ أنْ يَتَضَرَّروا منهما، وأصْبَحَ ذلك خاصًّا بمَكَّةَ دونَ غَيرِها مِن البِلادِ؛ فإنَّه لا يَقتَصِرُ أهْل بَلَدٍ عليهما إلَّا تَضَرَّروا منهما، كَما قالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «فَهُما لا يَخْلو عليهما أحَدٌ بِغَيرِ مَكَّةَ إلَّا لَم يُوافِقاه»، أي: لَيْسَ أحَدٌ يَعيشُ عَلى اللَّحْمِ والماءِ بغَيْرِ مَكَّةَ إلَّا اشْتَكى بَطْنَه، وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ولَمْ يَكُنْ لهمْ يَومَئذٍ حَبٌّ»، يَقصِدُ القمْحَ ونحْوَه، ولو كانَ عِندَهم حَبٌّ ومنه طَعامُهم، لدَعَا لهمْ فِيهِ بمِثلِ ما دَعا في اللَّحمِ والماءِ.
ثمَّ قالَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ لامرأةِ إسماعيلَ: فَإِذا جاءَ زَوجُك فاقْرَئي عليه السَّلامَ، ومُرِيه يُثبِتُ عَتَبةَ بابِه، فلَمَّا جاءَ إسْماعيلُ عليه السَّلامُ، قالَ: هَلْ أتاكمْ أحَدٌ؟ فَأخْبَرتْه عَن الشَّيْخِ الَّذي جاءَها في غِيابِه، وبِأوصافِه وما دارَ بيْنَه وبيْنَها. فَقالَ: ذاكَ أبي، وأنْتِ العَتَبةُ، أمَرَني أنْ أُمسِكَك، فأُبقيَك ولا أُطلِّقَك.
ثمَّ جاءَ إبراهيم عليه السلام زائرا لابنه مرة ثالثة، وإسْماعيلُ عليه السَّلامُ يَبْري نَبْلًا -أي: سَهْمًا- ويُصلِحُه تحْتَ شَجرةٍ قَريبةٍ مِن زَمزَمَ، فلَمَّا رَآه قامَ إليه فَصَنَعا كَما يَصنَعُ الوالِدُ بالوَلَدِ والوَلَدُ بالوالِدِ؛ مِن المُعانَقةِ والتَّقبيلِ ونحْوِهما، ثمَّ أخبَرَ إبراهيمُ ابنَه إسماعيلَ عليهما السَّلامُ أنَّ اللهَ سُبحانَه أمَرَه أنْ يَقومَ بِعَملٍ في هذا المَكانِ، وطَلَبَ مِن ولَدِه إسْماعيلَ عليه السَّلامُ أنْ يُعينَه عليه، فوافَقَ إسماعيلُ عليه السَّلامُ، فقالَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ: إنَّ الله أمَرَني أنْ أبْنيَ هاهُنا بَيْتًا، وأشارَ إلى «أكَمةٍ مُرتَفِعةٍ»، وهي مَكانٌ مُرتفعٌ قَليلًا عن سَطحِ الأرْضِ؛ ليُبَيِّنَ له المَكانَ الَّذي أُمِرَ بِبَناء الكَعْبةِ فيه، قالَ: فَعِنْدَ ذلك رَفَعَا القَواعِدَ، أي: شَرَعا في البِناءِ حَتَّى رَفَعا الأُسُسَ الَّتي يَقومُ عليها البَيْتُ. فَجَعَلَ إسْماعيلُ عليه السَّلامُ يَأْتي بالحِجارةِ، وإبْراهيمُ عليه السَّلامُ يَبْني، حَتَّى إذا ارْتَفعَ البِناءُ وعَلا وأصْبَحَ لا تَطولُه يَدُه، جاءَ بِهذا الحَجَرِ، فَقامَ ووَقَفَ عليه إبراهيمُ عليه السَّلامُ، وإسْماعيلُ عليه السَّلامُ يُناوِلُه الحِجارةَ، وهُما يَقولانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، فَيَدْعوانِ اللهَ بِقَبولِ بِنائِهما هذا، والرِّضا عَنْهما فيه؛ لأنَّه السَّميعُ لِدُعائِهما، العَليمُ ببِنائِهما. فجَعَلَا يَبْنِيانِ حتَّى يَدُورَا حَولَ البَيْتِ وهُما يقُولانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
وفي الحديثِ: بَيانُ تَحمُّلِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ وزَوجتِه ووَلَدِه وصَبْرِهم في ذاتِ اللهِ سُبحانَه.
وفيه: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يُضِيعُ أولياءَهُ.
وفيه: ما يدُلُّ على أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ خَليلُ اللهِ حقًّا، وأنَّ مَحبَّتَه للهِ قدْ تَغلَّبَت على كلِّ مَشاعرِه، فأطاعَهُ في كلِّ شَيءٍ حتَّى في مُفارَقةِ وَلَدِه.
وفيه: أصْلُ مَشروعيَّةِ السَّعيِ بيْن الصَّفا والمَروةِ، وأنَّ هاجَرَ كانت أوَّلَ مَن سَعى بيْنهما.
وفيه: أنَّ العرَبَ لَيسوا جَميعًا مِن نسْلِ إسماعيلَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّ قَبيلةَ جُرْهُمَ العربيَّةَ كانت قبْلَ إسماعيلَ عليه السَّلامُ.
وفيه: أنَّ المرأةَ الكثيرةَ الشَّكوى والتَّبرُّمِ مِن عَيشِها، والجاحدةَ لنِعمةِ اللهِ عليها؛ هي في الحقيقةِ امرأةٌ سُوءٌ.
وفيه: خَصوصيَّةُ مكَّةَ المُكرَّمةِ في الجمْعِ بيْن اللَّحمِ والماءِ وحْدَهما دونَ أنْ يَمرَضَ الإنسانُ منهما.