باب كتاب فضائل المدينة
بطاقات دعوية
عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - المدينة، وعك (14) أبو بكر وبلال [رضي الله عنهما، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت! كيف تجدك؟ ويا بلال! كيف تجدك؟ قالت: 7/ 5]، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرىء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع (15) عنه الحمى يرفع عقيرته (16) يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة (17) ... وهل يبدون لي شامة وطفيلقال: اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. [قالت عائشة: فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فأ خبرته، فـ 4/ 264] قال:
"اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا، وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة".
قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله. قالت: فكان بطحان يجري نجلا.
تعني ماء آجنا (18).
حُبُّ الأوطانِ، والتَّعلُّقُ بها، والحَنينُ إليها؛ فِطرةٌ في النُّفوسِ، لم يُنكِرْها الإسلامُ، وإنَّما وجَّهَها الوِجْهةَ الصَّحيحةَ التي تَخدُمُ دِينَ اللهِ عزَّ وجلَّ وتُعْلي رايتَه
وفي هذا الحديثِ تَحكي أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّه لَمَّا هاجَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه إلى المدينةِ، أُصِيبَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ وبِلالُ بنُ رَباحٍ رَضيَ اللهُ عنهما بالحُمَّى، فتَكلَّم كلٌّ منهم حسَبَ يَقينِه وعِلمِه بعَواقبِ الأمورِ، فتَعزَّى أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه عنْدَ أخذِ الحمَّى بقولِه: «كُلُّ امرئٍ مُصبَّحٌ في أهلِه»، يعني: كلُّ إنسانٍ يُقال له: صَبَّحَك اللهُ بالخَيرِ، وأنْعَمَ اللهُ تعالَى صَباحَك، ونحْوُ ذلك ممَّا يُحيَّا به الإنسانُ مِن أحبابِه، «والمَوْتُ أدْنَى مِن شِرَاكِ نَعْلِهِ» والحالُ أنَّ الموتَ أقرَبُ إليه مِن شِراكِ النَّعلِ -وهو أحَدُ سُيورِ النَّعلِ التي تكونُ على وَجْهِها- قد يَفْجَؤه فلا يُمْسي حيًّا، إشارةً منه لشِدَّةِ قُرْبِ الموتِ مِن كلِّ إنسانٍ، سواءٌ أكان مَريضًا أمْ صَحيحًا.
وأمَّا بِلالٌ رَضيَ اللهُ عنه فكان إذَا خَفَّت عنْه الحُمَّى وهَدَأَت سَورَتُها، يَرْفَعُ «عَقيرتَه»، أي: صَوتَه -قيل: أصْلُه أنَّ رجُلًا قُطِعَت رِجلُه، فكان يَرفَعُ المقطوعةَ على الصَّحيحةِ ويَصِيحُ مِن شِدَّةِ وَجَعِها بأعْلى صَوتهِ، فقيل لكلِّ رافعِ صَوتِه: رَفَعَ عَقِيرتَه- بأبياتٍ مِن الشِّعرِ تُعبِّرُ عن حَنينِه وتَمنِّيه الرُّجوعَ إلى مكَّةَ الَّتي كانَتْ فيها صِحَّتُه، فهو يَتمنَّى أنْ يَبيتَ لَيلةً واحدةً في وادي مكَّةَ، ويُطفِئَ أشواقَه الحارَّةَ مِن مِياهِ مَجَنَّةَ -وهي: ماءٌ عندَ عُكاظٍ على أميالٍ يَسيرةٍ مِن مكَّةَ بناحيةِ مَرِّ الظَّهرانِ، وكان به سُوقٌ في الجاهليَّةِ- وأنْ يُمتِّعَ ناظرَيْهِ بمُشاهَدةِ الإذْخِر والجَليلِ، وهما نَبْتانِ مِن الكلَأِ طَيِّبِ الرائحةِ يَكونانِ بمكَّةَ، وأنْ يُشاهِدَ شامةَ وطَفِيلًا، وهما جَبَلانِ مُتجاوِرانِ جَنوبَ غرْبِ مكَّةَ على قُرابةِ (90 كم) منها
ثمَّ جَعَلَ بِلالٌ رَضيَ اللهُ عنه يَدْعو اللهَ على الَّذين أخرَجوهم مِن مكَّةَ إلى أرضٍ بها وَباءٌ وأمراضٌ، فقال: «اللَّهمَّ الْعَنْ شَيبةَ بنَ رَبيعةَ، وعُتبةَ بنَ ربيعةَ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ»، وهؤلاء مِن رُؤوسِ المشركينَ وزُعمائِهم في مكَّةَ.
فلمَّا رَأى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما نزَل بأصحابِه مِن الحُمَّى والوَباءِ، خَشِي عليهم أنْ يَكرَهوا المدينةَ؛ لِما في النُّفوسِ مِن استِثقالِ ما تَكرَهُه، فدَعا اللهَ أنْ يُحبِّبَ إليهم المدينةَ كحُبِّهم مكَّةَ بلْ أشدَّ، وأنْ يُبارِكَ لهم فيها، فيَزيدَ الخَيرُ، وأنْ يُبارِكَ في صاعِهِم ومُدِّهم، والصَّاعُ: أربعةُ أمدادٍ، والمُدُّ: مِقدارُ ما يَملَأُ الكَفَّينِ، والمُدُّ يُساوي الآنَ تقريبًا (509) جِراماتٍ في أقلِّ تَقديرٍ، و(1072) جِرامًا في أعْلى تَقديرٍ، أمَّا الصَّاعُ فيُساوي بالجرامِ (2036) في أقلِّ تَقديرٍ، وفي أعْلى تَقْديرٍ يُساوي (4288) جِرامًا. وقدْ دَعا في حَديثٍ آخرَ في الصَّحيحَينِ بأْن تكونَ البركةُ فيها ضِعْفَيْ بَرَكةِ مكَّةَ
وسَأَلَ اللهَ تعالَى أنْ يَرفَعَ الوَباءَ عنهم، وأنْ يَنقُلَه إلى الجُحفةِ؛ وخصَّها لأنَّها كانت إذْ ذاك دارَ شِركٍ؛ ليَشتَغِلوا بها عن مَعونةِ أهْلِ الكفْرِ، وهي مَوضعٌ بيْن مكَّةَ والمدينةِ، تَبعُدُ عن مكَّةَ (190 كم). فاستجابَ اللهُ دَعوةَ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فبُورِكَ في أقواتِ المدينةِ، وأحبَّها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه حُبًّا أدامَه في نُفوسِهم حتَّى ماتوا عليه، ومِن مَظاهرِ ذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ إذَا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، فَرأى المَدِينةَ، جَعَلَ راحلتَه تُسرِعُ؛ مِن حُبِّهَا، كما في صَحيحِ البُخاريِّ
وتَذكُرُ أمُّ المُؤمنِينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّهم عِندَما أتَوُا المدينةَ أوَّلَ أمرِهم كانتْ أكثرَ أرضِ اللهِ وَباءً، حتَّى إنَّ واديَ بُطحانَ في جَنوبِ المدينةِ قُربَ المسجدِ النَّبويِّ الشَّريفِ، كان يَجْري طُولَ العامِ «نَجْلًا»، أي: بالمياهِ المُتغيِّرةِ المُتعفِّنة الَّتي تَتركَّدُ فيه كثيرًا، فيَنشَأُ عن ذلك كثرةُ الحُمِّيَّاتِ، ويَنتشِرُ الوَباءُ.
وفي الحَديثِ: أنَّ اللهَ تعالَى أباحَ للمُؤمنِ أنْ يَسأَلَ ربَّه صِحَّةَ جِسمِه، وذَهابَ الآفاتِ عنه إذا نزَلَتْ به، كسُؤالِه إيَّاه في الرِّزقِ والنَّصرِ، وليس في دُعاءِ المؤمنِ ورَغبتِه في ذلك إلى اللهِ لومٌ ولا قَدْحٌ في دِينِه
وفيه: الدُّعاءُ باللَّعنِ على الظَّالمينَ والكافرينَ
وفيه: العِنايةُ بالناحيةِ الصِّحِّيَّةِ والاهتِمامُ بجَودةِ الهَواءِ، ونَقاءِ الماءِ، والتَّحذيرُ مِن المِياهِ الراكدةِ المُتغيِّرةِ
وفيه: مَشروعيَّةُ إنشادِ الشِّعرِ، والتَّمثُّلِ به، واستِماعِه