بقية حديث زيد بن خالد الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم 18
مستند احمد
حدثنا سفيان، حدثنا صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد الجهني: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فلما أصبح قال: " ألم تسمعوا ما قال ربكم عز وجل الليلة؟ قال: ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح بها قوم [ص:283] كافرين بالذي آمن بي "
علَّمَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ نَتوجَّهَ إلى اللهِ تعالَى بالدُّعاءِ في كلِّ أُمورِنا، وخاصَّةً في النَّوازلِ، فنَدْعوه ليَرفَعَ عنا البَلاءَ
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رجُلًا دَخَلَ يومَ الجُمُعةِ مِن أحدِ أبوابِ المسجِدِ النَّبويِّ، وكان هذا البابُ مُواجِهًا ومُقابِلًا للمِنبرِ، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائمًا على المنبرِ يَخطُبُ، فوقَفَ الرَّجلُ واستَقبَلَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَجْهِه، وقال: يا رسولَ اللهِ، هلَكَتِ المَواشي؛ بسَببِ عدَمِ تَوفُّرِ ما تَعيشُ به مِن الأقواتِ المفقودةِ بحَبْسِ المطَرِ، وانقطَعَتِ السُّبُلُ، أي: الطُّرُقُ، فلمْ تَسلُكْها الإبلُ لهَلاكِها أو ضَعفِها؛ بسَببِ قِلَّةِ الكَلَأِ، أو بإمْساكِ الأقواتِ فلم تُجلَبْ، أو بعَدَمِ ما يُحمَلُ عليها، فادْعُ اللهَ أنْ يُغيثَنا، فيَسقِيَنا بإنزالِ المطَرِ، فاستجابَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للرجُلِ، فرفَعَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يدَيْه ودَعا قائلًا: «اللَّهمَّ اسْقِنا»، وكرَّر الدُّعاءَ ثَلاثَ مرَّاتٍ، وكان مِن عادتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه إذا دَعا دَعا ثلاثًا، وإذا سَأَلَ سَأَلَ ثلاثًا، كما جاء في صَحيحِ مُسلمٍ عن ابنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه
ثمَّ أخبَرَ أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم ما كانوا يرَوْنَ في السَّماءِ حِينَ دَعا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو على المنبرِ أيَّ سَحابٍ مُجتمِعٍ، ولا «قَزَعَةً» وهي القِطعةُ الرَّقيقةُ مِن السَّحابِ، ولا يرَوْنَ شيئًا مِن ريحٍ وغيرِه ممَّا يدُلُّ على المطَرِ، وما بيْنَهم وبيْن «سَلْعٍ» -وهو جبَلٌ بالمدينةِ- مِن بَيتٍ ولا دارٍ يَحجُبُهم عن رُؤيتِه، فظَهَرَتْ مِن وَراءِ سَلْعٍ سَحابةٌ مِثلُ التُّرْسِ؛ في الاستِدارةِ، لا في القَدْرِ، والتُّرسُ: أداةُ حرْبٍ تُستخدَمُ لحِمايَةِ المقاتِلِ مِن ضَرَباتِ الأسْهُمِ والسُّيوفِ، وقولُه: «فلمَّا توسَّطَتِ» القَزَعةُ «السَّماءَ، انتَشَرتْ ثمَّ أمطَرتْ»، أي: استَمرَّت مُستديرةً حتى انتَهَتْ إلى الأُفقِ، فانبَسَطَت حينَئذٍ، وفي هذا إشارةٌ إلى تَعميمِ الأرضِ بالمطَرِ
ثمَّ حَلَفَ أنسٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم لم يَرَوا الشَّمسَ مُدَّةَ سِتَّةِ أيَّامٍ بسَببِ استِمرارِ وُجودِ السَّحابِ والمطَرِ. ثمَّ دخَل رجُلٌ في الجُمعةِ المقبلةِ -يَحتمِلُ أنْ يكونَ نفْسَ الرجُلِ، وأنْ يكونَ غيرَه- مِن ذلك البابِ الذي دخَلَ منه السائلُ أوَّلًا، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائمٌ يَخطُبُ، فاستَقبَلَه قائمًا، فقال: يا رسولَ اللهِ، هلَكَتِ الأموالُ، أي: المواشي؛ بسَببِ كَثرةِ المياهِ؛ لأنَّه انقَطَعَ المرعى، فهَلَكَتِ المواشي مِن عدَمِ الرَّعْيِ، وانقطَعتِ السُّبُلُ؛ لتَعذُّرِ سُلوكِها مِن كَثرةِ المطَرِ، فادْعُ اللهَ يُمسِكْها، فلا تُنزِلُ مَطَرًا ولا ماءً
فرفَع صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يدَيْه، ثمَّ قال: «اللَّهمَّ حوالَيْنا»، أي: أَنزِلِ المطرَ حوالَيْنا ولا تُنزِلْه علينا، والمرادُ صَرفُه عن الأبنيةِ وإنزالُ المطَرِ حيثُ لا نَتضرَّرُ به، «اللَّهمَّ على الآكَامِ» جمْعُ أَكَمَةٍ، وهي التُّرابُ المجتمِعُ، أو الهَضْبةُ الضَّخمةُ، أو الجَبلُ الصَّغيرُ، وما ارتفَعَ مِن الأرضِ والجبالِ، «والآجامِ» وهي أبنيةٌ عاليةٌ تُشبِهُ القُصورَ، وهي مِن حُصونِ المدينةِ، «والظِّرَابِ» جمع ظَرِبٍ، وهو جبَلٌ مُنبسِطٌ على الأرضِ، أو الرَّوابي الصِّغارُ دونَ الجبَلِ، «والأوديةِ، ومَنابِتِ الشَّجرِ»، أي: أَنزِلِ المطرَ في مَناطقِ إنباتِ المَرعَى والشَّجرِ، لا في الطُّرُقِ المسلوكةِ، فانقطَعتِ الأمطارُ عن المدينةِ وخَرَجوا مِن المسجِدِ وهم يَمْشون في الشَّمسِ، وهذا مِن عَظيمِ فضْلِ اللهِ على نَبيِّه، وإظهارِ كَرامتِه عندَه سُبحانه
وفي الحديثِ: عَلامةٌ مِن عَلاماتِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفيه: الأدبُ في الدُّعاءِ، حيثُ لم يَدْعُ برفْعِ المطَرِ مُطلقًا؛ لاحتِمالِ الاحتياجِ إلى استمرارِه
وفيه: أنَّ الدُّعاء بدفْع الضَّررِ لا يُنافي التَّوَكُّلَ
وفيه: مَشروعيَّةُ الكلامِ مع الخَطيبِ وهو على المنبرِ للضَّرورةِ