تبدئة أهل الدم في القسامة 1
سنن النسائي
أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، أن سهل بن أبي حثمة أخبره، أن عبد الله بن سهل، ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما، فأتي محيصة فأخبر: أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير أو عين، فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، فقالوا: والله ما قتلناه، ثم أقبل حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، ثم أقبل هو وحويصة وهو أخوه أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كبر كبر» وتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب» فكتب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» قالوا: لا، قال: «فتحلف لكم يهود؟» قالوا: ليسوا مسلمين. فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار، قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء
عَلَّمَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الآدابَ كما عَلَّمنا أحكامَ الدِّينِ، وطَبَّق ذلك في مواقِفِ الحياةِ مع أصحابِه وغيرِهم ممَّن عاصروه من غيرِ المُسلِمين
وفي هذا الحديثِ يَرْوي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَسَهْلُ بْنُ أبي حَثْمَةَ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ عبدَ الله بنَ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةَ بنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ذَهَبَا إلى خَيْبَرَ في حاجةٍ لهما، وخَيبَرُ: قَرْيةٌ كَبيرةٌ كان يَسكُنُها اليَهودُ، وكانت ذاتَ حُصونٍ ومَزارِعَ، على بُعدِ 173 كيلومترًا تَقْريبًا مِن المَدينةِ إلى جِهةِ الشَّامِ، فتفرَّقَا -أي: عبدُ اللهِ بنُ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةُ- في النَّخْلِ، فقُتِل عبدُ اللهِ بنُ سَهْلٍ، فوَجَده مُحَيِّصَةُ في عَيْنِ ماءٍ مَطْروحًا قد كُسِرت عُنُقُه وهو يَتَشَحَّطُ في دَمِه، فجاء عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهْلٍ أَخُو عبدِ اللهِ المقتولِ، وحُوَيِّصَةُ وأخُوه مُحَيِّصَةُ ابنَا مَسْعُودٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَكلَّموا -أي الثَّلاثةُ- في أمرِ صاحبِهم عبدِ اللهِ المَقتولِ، فبَدَأ عبدُ الرَّحْمَنِ أخو القتيلِ بالكلامِ، وكان أصغرَ القومِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُعلِّمًا له: «كَبِّرِ الكُبْرَ»، أي: قَدِّمِ الأكبرَ سِنًّا فلْيَتكلَّمْ هو؛ إرشادًا إلى الأدَبِ في تقديمِ الأسَنِّ، وذلك لِيَتكلَّموا في تَحقيقِ صُورةِ القصَّةِ وكَيفيَّتِها، فتَكلَّموا فيما وقع لصاحِبِهم من القَتلِ في خيبرَ دونَ معرفةِ القاتِلِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَتستحِقُّون قَتِيلَكم»، أي: تأخُذون دِيَتَه، «أو قال: صاحِبَكم» الشَّكُّ من أحدِ رُواة الحديثِ، «بِأَيْمَانِ خمسين» رجُلًا «منكم؟» يحلِفون أنَّ فلانًا قتَلَه، فيُحَدِّدونه شخصًا إن كانوا متأكِّدين من ذلك، قالوا: «يا رسولَ الله، أْمرٌ لم نَرَهُ» فكيف نَحلِفُ عليه؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فَتُبْرِئُكُمْ»، أي: تُخَلِّصُكم «يَهُودُ» خيبرَ مِن اليَمِين «في أَيْمَانِ خَمْسين» رجلًا «منهم» فيَحلِفون أنَّهم لا يَعلَمونَ القاتِلَ، وتَبْرَأُ إليكم مِن دَعْواكم؟ قالوا: «يا رسولَ الله، قومٌ كُفَّارٌ» فكيف نَأخُذُ بأَيْمَانِهم؟ والحاصلُ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَدَأ بالمُدَّعِينَ في الأَيْمَانِ، فلمَّا نَكَلُوا رَدَّها على المُدَّعَى عليهم، فلمْ يَرْضَوْا بأَيْمَانِهم، «فوَدَاهُم»، أي: أعطاهُم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دِيَتَه مِن عندِه، أو مِن بَيْتِ المالِ
ويَحكِي سَهْلُ بنُ أبي حَثْمَةَ أنَّه أدْرَكَ ناقةً مِن تلك الإبلِ التي أعطاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دِيَةً لأهلِ القَتِيل، «فدَخَلَت» النَّاقةُ «مِرْبَدًا لهم»، والمِرْبَدُ: الموضعُ الذي تَجتمِعُ فيه الإبلُ فرَكَضَتْه بِرِجْلِها، أي: رَفَسَتْه
وفي الحَديثِ: إكرامُ الكَبيرِ، وابتداءُ الأكْبرِ بالكلامِ والسُّؤالِ
وفيه: فضيلةُ السِّنِّ عند التساوي في الفَضائِلِ
وفيه: مُرَاعَاةُ الإمامِ للمَصالِحِ العامَّةِ، والاهتمامُ بإصلاحِ ذاتِ البَينِ، وقطْعُ النِّزاعِ بيْن المُتنازِعين وجَبْر خَواطرِهم