حديث البراء بن عازب 93
مستند احمد
أُحُدٌ جَبَلٌ مِن جِبالِ المَدينةِ، على بُعدِ أربَعةِ كيلومتراتٍ مِنَ المَسجِدِ النَّبويِّ، وقدْ وَقَعتْ عِندَه أحداثُ غَزوةِ أُحُدٍ، وكانت في شوَّالٍ مِنَ السَّنةِ الثَّالِثةِ مِنَ الهِجرةِ، وكانت بيْنَ المُسلِمينَ وقُرَيشٍ
وفي هذا الحَديثِ يَروي البَراءُ بنُ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَعَلَ عَبدَ اللهِ بنَ جُبَيرٍ قائدًا على الرَّجَّالةِ قبْلَ بَدْءِ المَعرَكةِ في تِلكَ الغَزوةِ، وكانوا خَمسينَ رَجُلًا، والرَّجَّالةُ: مُفرَدُ راجِلٍ، وهو الذي يُقاتِلُ على رِجلَيْهِ، ويُقصَدُ بهم هُنا الرُّماةُ الذين أمَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَقِفوا فَوقَ جَبَلِ عَيْنَيْن، وسُمِّي فيما بعد بجبل الرُّماة وهو جبلٌ صغير يقع بجانب جبل أُحد، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم: «إنْ رَأَيتُمونا تَخْطَفُنا الطَّيرُ فلا تَبرَحوا مَكانَكم هذا حتَّى أُرسِلَ إليكم»، والخَطْفُ: استِلابُ الشَّيءِ وأخْذُه بسُرعةٍ، والمُرادُ: إنْ رَأَيتُمونا قُتِلْنا وأكَلَتْ لُحومَنا الطَّيرُ، فلا تَترُكُوا أماكِنَكمْ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وإِنْ رَأَيتُمونا هَزَمْنا القَومَ وأوْطأْناهم، فلا تَبرَحُوا حتَّى أُرسِلَ إليكم»، أي: إنَّكم لو رَأيتُمونا مَشَيْنا عليهم بعْدَ أنْ وَقَعوا قَتْلى على الأرضِ، فلا تَترُكوا أماكِنَكم، وهذا كِنايةٌ عنِ التَّحذيرِ الشَّديدِ في مُخالَفةِ أمْرِه هذا، وما لِمَكانِهم مِنَ الأهمِّيَّةِ البالِغةِ في سَتْرِ ثَغْرةٍ مِنَ الثَّغَراتِ يُمكِنُ لِلعَدُوِّ أنْ يَنفُذَ مِنها
فلَمَّا بَدأتِ المَعرَكةُ هُزِمَ المُشرِكونَ وانتَصَرَ المُسلِمونَ، حتَّى إنَّ البَراءَ بنَ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنه يقولُ: «فأنا واللهِ رَأيتُ النِّساءَ يَشْتَدِدْنَ قدْ بَدَتْ خَلاخِلُهُنَّ وأسوُقُهُنَّ رافِعاتٍ ثيابَهُنَّ»، ويَقصِدُ نِساءَ الكُفَّارِ، و«يَشْتَدِدْنَ»: يُسرِعْنَ في المَشيِ والعَدْوِ، حتَّى إنَّهُنَّ مِن شِدَّةِ سُرعَتِهِنَّ ظَهَرَ حُلِيُّ أرجُلِهِنَّ، وسِيقانُهُنَّ؛ لِرَفعِهِنَّ الثِّيابَ
ثمَّ إنَّ أصحابَ عَبدِ اللهِ بنِ جُبَيرٍ رَضيَ اللهُ عنه -وهُمُ الرَّجَّالةُ الذين حَذَّرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا يُغادِروا مَكانَهمُ الذي ألْزَمَهمْ بهِ- قدِ انتَبهُوا لِغَنائمِ جَيشِ المشركينَ المُنهَزِمِ، يُريدونَ أنْ يَأخُذوها ويَضُمُّوها، فذَكَّرَهم عَبدُ اللهِ بنُ جُبَيرٍ رَضيَ اللهُ عنه بكَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَحذيرِه إيَّاهُم مِن مُغادَرةِ المَكانِ الذي وَضَعَهم فيه، فأصَرُّوا أنْ يُصيبوا مِنَ الغَنيمةِ ويَتْرُكوا مَكانَهم، فلَمَّا أتَوْا إلى ما تَوَجَّهوا إليه -وهي الغَنيمةُ- صُرِفتْ وُجوهُهم، أي: تَحَيَّروا، فلمْ يَدْروا أينَ يَتوَجَّهونَ، وذلكَ عُقوبةٌ لِعِصيانِهم قَولَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأقبَلوا حالَ كونِهم مُنهَزِمينَ؛ فَنادَى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جَماعَتِهمُ المُتأخِّرةِ، أنْ يَرجِعوا ويَضُمُّوا إليه، فلم يَبْقَ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَيرُ اثنَيْ عَشَرَ رَجلًا، وقيلَ: أربَعةَ عَشَرَ، ثَبَتَ معه مِنَ المُهاجِرينَ: أبو بَكرٍ، وعُمَرُ، وعلِيٌّ، وعَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ، وسَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ، وطَلحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ، والزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ، وأبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ، رَضيَ اللهُ تعالَى عنهم، ومِنَ الأنصارِ: الحُبابُ بنُ المُنذِرِ، وأبو دُجانةَ، وعاصِمُ بنُ ثابِتِ بنِ أبي الأفلَحِ، والحارِثُ بنُ الصِّمَّةِ، وأُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وسَعدُ بنُ مُعاذٍ، وقيلَ: وسَهلُ بنُ حُنَيفٍ
فقَتَلَ المُشرِكونَ مِنَ المُسلِمينَ على إثرِ تلك الفَعلةِ سَبعينَ رَجُلًا، منهم حَمزةُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، عَمُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَتَلَه وَحْشيٌّ غُلامُ جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ. وكانَ المُسلِمونَ أصابوا مِنَ المُشرِكينَ في غَزوةِ بَدرٍ أربَعينَ ومِئةً؛ سَبعينَ أسيرًا، وسَبعينَ قَتيلًا
وبعْدَ انتِهاءِ المَعرَكةِ قال أبو سُفيانَ -وكانَ آنَذاكَ مُشرِكًا- يُنادِي ويَسأَلُ: أفي القَومِ مُحمَّدٌ؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فنَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه أنْ يُجيبوه، ثمَّ نادى أبو سُفيانَ وسَأَلَ: أفي القَومِ ابنُ أبي قُحافةَ؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ويَقصِدُ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، ثمَّ نادى أبو سُفيانَ وسَأَل: أفي القَومِ ابنُ الخَطَّابِ؟ ويَقصِدُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، فرَجَعَ أبو سُفيانَ إلى أصحابِه، فقال: أمَّا هؤلاءِ فقدْ قُتِلوا، يَقصِدُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصاحِباه رَضيَ اللهُ عنهما، فما مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَه، فقال: كَذَبتَ واللهِ يا عَدُوَّ اللهِ، إنَّ الذين عَدَدتَ أحياءٌ كُلُّهم، وقد بَقيَ لكَ ما يَسوؤُكَ، وكانت إجابَتُه بعْدَ نَهْيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِمايةً لِلظَّنِّ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قُتِلَ، وأنَّ بأصحابِه الوَهَنَ. وليس فيه عِصيانٌ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الحَقيقةِ؛ فهو ممَّا يُؤجَرُ به، وقدْ أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَ ذلك بالرَّدِّ على أبي سُفيانَ، فكأنَّه أقَرَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه على جَوابِه لَمَّا رَأى المَصلَحةَ في ذلك
فرَدَّ أبو سُفيانَ: يَومٌ بيَومِ بَدرٍ، والحَربُ سِجالٌ، أي: يَومٌ في مُقابَلةِ يَومِ بَدرٍ، والحَربُ دُوَلٌ؛ تَكونُ مَرَّةً لِهؤلاء، ومَرَّةً لِهؤلاء، ثمَّ قال أبو سُفيانَ: إنَّكمْ ستَجِدونَ في القَومِ مُثْلةً -والمُثْلةُ: قَطعُ الأُنوفِ وبَقْرُ البُطونِ، ونَحوُ ذلك لِلقَتْلى- ثمَّ نَوَّهَ أنَّ تِلكَ المُثْلةَ لم يَأمُرْ بها؛ لِأنَّها تُعَدُّ نَقيصةً في أدبِيَّاتِ الحُروبِ، ومع ذلك يُشيرُ أبو سُفيانَ إلى أنَّهُ لم تَسُؤْهُ تلك المُثْلةُ، فلم يَكرَهْ ما فُعِلَ بالمُسلِمينَ مِن تَمثيلٍ بالقَتْلى، وقدْ رَضيَ أبو سُفيانَ بتلك المُثلةِ في حَقِّ المُسلِمينَ، باعتِبارِ أنَّهم أعداءٌ له، ثمَّ أخَذَ أبو سُفيانَ يَرتَجِزُ، -والرَّجَزُ: نَوعٌ مِن أوزانِ الشِّعرِ- ويَقولُ: «اعْلُ هُبَلْ، اعْلُ هُبَلْ». و«هُبَلٌ»: اسمُ صَنَمٍ كانَ في الكَعبةِ يَعبُدونَه مِن دُونِ اللهِ، والمُرادُ: اعْلُ حتَّى تَصيرَ كالجَبَلِ العالي، فلمَّا سمِعَ النَّبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلكَ، أمَرَ أصحابَه أنْ يُجيبوا أبا سُفيانَ بقَولِهم: «اللهُ أعلى وأجَلُّ»، وأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإجابَتِه؛ لأنَّه بُعِثَ بإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ تعالَى وإظهارِ دِينِه، فلَمَّا تَكلَّمَ أبو سُفيانَ بهذا الكَلامِ لم يَسَعِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ السُّكوتُ عنه حتَّى تَعلُوَ كَلِمةُ اللهِ، ثمَّ عَرَّفَهم في جَوابِه أنَّهم يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ أعلى وأجَلُّ مِن كُلِّ هذه الأصنامِ التي يَعبُدُها المشرِكون
فقال أبو سُفيانَ: «إنَّ لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم»، والعُزَّى: اسمُ صَنَمٍ كانَ لِقُرَيشٍ، وقيلَ: هي شَجَرةٌ لِغَطَفانَ كانوا يَعبُدونَها. وفيه كِنايةٌ عن أنَّ لِلمُشرِكينَ إلهَ العِزَّةِ الذي يُعِزُّهم، بيْنَما المُسلِمونَ لا إلهَ لهم يُضاهِيه، فلا عِزَّةَ لهم، فأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُجيبوا أبا سُفيانَ بقَولِهم: «اللهُ مَوْلانا، ولا مَوْلى لكم»، أي: إنَّ اللهَ هُوَ الوَليُّ، يَتوَلَّى المُؤمِنينَ بالنَّصرِ والإعانةِ، ويَخذُلُ الكافِرينَ، وأنَّ الأصنامَ لا مُوالاةَ لها، ولا نَصرَ، فبَكَّتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلكَ، ولم يُراجِعْه، وإنَّما تَرَكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُجاوَبَتَه بنَفْسِه؛ تَهاوُنًا به بأنْ يكونَ خَصْمًا له، وأمَرَ مَن يَنوبُ عنه؛ تَنَزُّهًا عنه
وفي الحَديثِ: بَيانُ عاقِبةِ مُخالَفةِ أوامِرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حيث تُسبِّبُ لِلإنسانِ الهَزيمةَ والخُسرانَ
وفيه: بَيانُ أنَّ المُسلِمَ إذا عَصَى اللهَ ورَسولَه فقدِ استَوَى مِن جِهةٍ مع غَيرِ المُسلِمِ، فإذا كان نِزالٌ بيْنَهما فالغَلَبةُ لِمَن أخَذَ بأسبابِ الدُّنيا مِن كَثرةِ العَددِ والسِّلاحِ والعَتادِ
وفيه: الأخْذُ بأسبابِ النَّصرِ وبالأسبابِ الدُّنيويَّةِ، مع التَّوكُّلِ على اللهِ
وفيه: أنَّه يَجِبُ على الجُندِ طاعةُ القائِدِ فيما يَأمُرُهم به؛ لِأنَّ مُخالَفةَ أوامِرِه مِن أعظَمِ أسبابِ الهَزيمةِ
وفيه: بَيانُ مَنزِلةِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وخُصوصيَّتِهما به