حديث المسور بن مخرمة الزهري، ومروان بن الحكم 6
مستند احمد
حدثنا يعقوب، حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال: وزعم عروة بن الزبير، أن مروان، والمسور بن مخرمة أخبراه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوا أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم " وكان أنظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد فإن إخوانكم قد جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك، فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله عز وجل علينا، فليفعل» فقال الناس: قد طيبنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ص:231]: «إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك، ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» فجمع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا هذا الذي بلغني عن سبي هوازن
بعْدَ أنْ فتَحَ اللهُ لنَبيِّه مكَّةَ المُكرَّمةَ في رَمَضانَ مِن العامِ الثَّامنِ منَ الهِجْرةِ، أقامَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمكَّةَ 19 يومًا، حتَّى جاءَتْ هَوازِنُ وثَقيفُ، فنَزَلوا بحُنَينٍ يُريدونَ قِتالَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقدْ أرادوها مَوْقِعةً حاسِمةً، فحَشَدوا الأمْوالَ، والنِّساءَ، والأبْناءَ؛ حتَّى لا يَفِرَّ أحَدُهم، ويَترُكَ أهلَهُ ومالَهُ، فخرَجَ إليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونصَرَه اللهُ عليهم، وغنِمَ منهم سَبيًا وأمْوالًا كَثيرةً
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي المِسْوَرُ بنُ مَخْرَمةَ رَضيَ اللهُ عنهما، والتَّابِعيُّ مَرْوانُ بنُ الحَكَمِ: أنَّ وَفدَ قَبيلةِ هَوازِنَ جاؤوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُسلِمينَ، ويَطلُبونَ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَأخُذوا أمْوالَهم وسَبْيَهم، والسَّبيُ: همُ النِّساءُ والأوْلادُ الَّتي تُؤخَذُ في القِتالِ، فرَدَّ عليهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا: «مَعي مَن ترَوْنَ» منَ الأصْحابِ والمُحارِبينَ الَّذين وزَّعْتُ عليهمُ الغَنائمَ والسَّبايا، «وأحَبُّ الحَديثِ إلَيَّ أصْدَقُهُ»، أيِ: الكَلامُ الصَّادِقِ والوَعدُ الصَّادقُ أحَبُّ إليَّ، فما قُلتُ لكمْ هو كَلامٌ صادقٌ، وما وعَدْتُكم فعلَيَّ إيفاؤُه. وَخيَّرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أنْ يرُدَّ إليهمُ المالَ، أو يرُدَّ إليهمُ السَّبْيَ، فيَخْتاروا واحِدًا مِن الاثنَينِ، وأخبَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه انتَظَرَهم مدَّةً، ولم يَقسِمِ المالَ والسَّبيَ بيْنَ الغُزاةِ، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ ترَكَ الغَنائمَ، وتوَجَّهَ إلى الطَّائفِ -وهي مَدينةٌ تقَعُ في الغَربِ مِن شِبهِ الجَزيرةِ العَربيَّةِ، وهي اليومَ تابِعةٌ لمِنطَقةِ مكَّةَ المُكرَّمةِ، على جانِبَيْ وادي «وجٍّ»، وتَبعُدُ عن مَدينةِ مكَّةَ المُكرَّمةَ 75 كم تَقْريبًا- فحاصَرَها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ رجَعَ عنها إلى الجِعِرَّانةِ، ثمَّ قسَمَ الغَنائمَ هناك، فجاءَه وَفْدُ هَوازِنَ بعْدَ ذلك، فبيَّنَ لهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه انتَظَرَهم بِضعَ عَشْرةَ لَيلةً، والبِضعُ مِن ثَلاثةَ عَشَرَ إلى تِسْعةَ عَشَرَ
فلمَّا عَلِموا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لنْ يرُدَّ إليهم سِوى واحِدٍ مِن الاثنَيْنِ: المالِ، أو السَّبْيِ، اخْتاروا سَبْيَهم، فقامَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأثْنَى على اللهِ بما هو أهْلُه، وخطَبَ في المُسلِمينَ، وذكَرَ لهم أنَّ إخْوانَهم مِن هَوازِنَ قد جاؤوا تائبينَ منَ الشِّركِ، راجِعينَ عنِ المَعْصيةِ، مُسلِمينَ مُنْقادينَ، وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَأى أنْ يرُدَّ إليهم سَبيَهم، فمَن أرادَ أنْ يَرُدَّ ما أخَذَه مِنَ السَّبْيِ بطِيبِ نفْسٍ، فلْيفعَلْ ذلك، ومَن لم يُرِدْ ذلك، وأرادَ أنْ يكونَ على نَصيبِه حتَّى يَحصُلَ على عِوَضِه مِن أوَّلِ فَيْءٍ؛ فله ذلك. وقيلَ مَعْناه: مَن لم يُرِدْ ردَّ السَّبيِ، وأرادَ نَصيبَه، فلْيرُدَّ السَّبيَ بشَرطِ أنْ يُعْطى عِوَضَه مِن أوَّلِ فَيْءٍ، والفَيْءُ: هو ما يَحصُلُ للمُسلِمينَ مِن أمْوالِ الكفَّارِ مِن غيرِ حَربٍ ولا جِهادٍ. وإنَّما اسْتَأذَنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الصَّحابةَ في ردِّ سَبيِهم؛ لأنَّ أمْوالَهم وسَبْيَهم صارت مِلكًا للمُجاهِدينَ، ولا يَجوزُ ردُّ ما مَلَكوا إلَّا بإذْنِهم
فأجابَ النَّاسُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ رَضِينا برَدِّ ما أخَذْناه مِنَ السَّبيِ لهمْ عن طِيبِ نفْسٍ، إجابةً لدَعْوةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم، فأخْبَرَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لم يَتبيَّنْ له مَن أرادَ تَعْويضًا عن السَّبيِ مِمَّن لم يُرِدْ، وأمَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَرجِعوا إلى عُرَفائِهم ويُخبِروهم بحَقيقةِ أمْرِهم، والعُرَفاءُ جَمعُ عَريفٍ، وهو الَّذي يَعرِفُ أمْرَ القَومِ وأحْوالَهم، والمُرادُ زُعَماؤُهم ورُؤساؤُهم، والغرَضُ مِن ذلك التَّقَصِّي عن حالِهم، ومَعرِفةُ الغايةِ منَ اسْتِطابةِ نُفوسِهم، فرجَعَ النَّاسُ فكلَّمَهم عُرَفاؤُهم، ثُمَّ رَجَعوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخْبَروه أنَّ النَّاسَ طَيَّبوا ذلك، وأَذِنوا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَرُدَّ السَّبيَ إليهم. قال الرَّاوي محمَّدُ بنُ شِهابٍ الزُّهْريُّ: فهذا الَّذي بلَغَنا عن سَبيِ هَوازِنَ
وفي رِوايةِ أبي داودَ والنَّسائيِّ، مِن حَديثِ عمْرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عنهما: فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فما كان لي ولبَني عبدِ المُطَّلِبِ فهو لكمْ، فقال المُهاجِرونَ: وما كان لنا فهو لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقالت الأنْصارُ: ما كان لنا فهو لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال الأقرَعُ بنُ حابِسٍ: أمَّا أنا وبَنو تَميمٍ فلا، وقال عُيَيْنةُ بنُ حِصنٍ: أمَّا أنا وبَنو فَزارةَ فلا، وقال العبَّاسُ بنُ مِرْداسٍ: أمَّا أنا وبَنو سُلَيمٍ فلا، فقامَت بَنو سُلَيمٍ فقالوا: كذَبْتَ، ما كان لنا فهو لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أيُّها النَّاسُ، رُدُّوا عليهم نِساءَهم وأبْناءَهم، فمَن تَمسَّكَ مِن هذا الفَيءِ بشَيءٍ فله سِتُّ فَرائضَ مِن أوَّلِ شَيءٍ يُفِيئُه اللهُ عزَّ وجلَّ علينا»
وفي الحَديثِ: مَشْروعيَّةُ سَبيِ العرَبِ مِن المُشرِكينَ
وفيه: عَدْلُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحُسنُ سِياسَتِه للأُمورِ
وفيه: حُبُّ الصَّحابةِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُسارَعَتُهم في مَرْضاتِه
وفيه: مَشْروعيَّةُ تَعْيينِ مَن يَنوبُ عن جَماعتِه وقَومِه؛ لأنَّ الإمامَ لا يُمكِنُه أنْ يُباشِرَ جَميعَ الأُمورِ بنفْسِه، فيَحْتاجُ إلى إقامةِ مَن يُعاوِنُه ليَكفيَه ما يُقيمُه فيه