مسند أبي هريرة رضي الله عنه 163
مسند احمد
حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، أو سعيد، سمعت أبا هريرة، يقول: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والمزفت: أن ينتبذ فيه " ويقول أبو هريرة: «واجتنبوا الحناتم»
كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعلِّمُ الناسَ جَوامعَ الأُمورِ التي تَنفَعُهم في دِينِهم ودُنياهم وآخِرتِهم؛ ليَكونوا على دِرايةٍ تامَّةٍ بها
وفي هذا الحديثِ يقولُ التابعي أبو جَمْرةَ: كنتُ أقعُدُ مع ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، يعني زمَنَ وِلايتِه البَصرةَ مِن قِبَلِ علِيٍّ رَضيَ اللهُ عنه، فكان ابنُ عبَّاس رَضيَ اللهُ عنهما يُكرِمُه ويُجلِسُه بقُربِه على سَريرِه، فقال له ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: أقِمْ عندي لتُساعدَني على فَهْمِ كَلامِ السَّائلينَ؛ لأنَّه كان يُترجِمُ له ويُخبِرُه بمُرادِ السَّائلِ الأعجميِّ، ويُخبِرُ السَّائلَ بقولِ ابنِ عبَّاسٍ. فأقام معه شَهرينِ، وسَمِعَ مِن ابنِ عبَّاسٍ هذا الحديثَ الَّذي يَحكي فيه قصَّةَ قُدومِ وَفْدِ عبدِ القيسِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعبْدُ القَيسِ: قَبيلةٌ، فسَأَلَهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن نَسَبِهم، فقالوا: رَبيعةُ؛ نِسبةً إلى جدِّهم الأعْلى، ورَبيعةُ هو ابنُ نِزارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدْنانَ، وإنَّما قالوا: رَبيعةُ؛ لأنَّ عبدَ القيسِ مِن أولادِهِ، فرحَّب بهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقال: مَرحبًا بالقومِ الَّذين جاؤوا غيرَ خَزايا ولا نَدامى، والمرادُ أنَّه لم يكُنْ منهم تَأخُّرٌ عن الإسلامِ ولا عِنادٌ، ولا أصابَهم أسْرٌ ولا سِبْيٌ، ولا ما أشبَهَ ذلك، ممَّا يَستحيُون بسَببِه أو يَندَمون، فهذا إظهارٌ لشَرَفِهم؛ حيث دَخَلوا في الإسلامِ طائعين مِن غَيرِ خِزيٍ. فقالوا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّا لا نَستطيعُ أنْ نَأتيَك إلَّا في الشَّهرِ الحرامِ، والمرادُ به الجِنسُ، فيَتناوَلُ الأشهرَ الحُرمَ الأربعةَ، وهي: رَجَبٌ، وذو القَعدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمُحرَّمُ، وإنَّما مُكِّنوا في هذه الأشهرِ دونَ غيرِها؛ لأنَّ العرَبَ كانت لا تُقاتِلُ فيها، وكان كُفَّارُ قَبائلِ مُضَرَ يَعيشون بيْن رَبيعةَ والمدينةِ، ولا يُمكِنُ لقَبيلةِ رَبيعةَ الوُصولُ إلى المدينةِ إلَّا بالمرورِ عليهم، وكانوا يَخافون منهم إلَّا في الأشهُرِ الحُرمِ؛ لامتناعِهِم مِن القِتالِ فيها، وطلَبوا مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَأمُرَهم بأمرٍ فصْلٍ، يُبيِّنُ لهم به الحقَّ والباطلَ؛ ليُخبِروا به قَومَهم في بِلادِهم. فأمَرَهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأربعٍ: أمَرَهم بالإيمانِ بالله، وفسَّره بأنَّه شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، ومعنى الشَّهادتينِ: أنْ يَنطِقَ العبدُ بهما مُعترفًا مُصدِّقًا بقلْبِه مُعتقِدًا لمَعناهما، عاملًا بمُقتضاهما، فيُصدِّقُ ويُقرُّ ويَشهَدُ بوَحدانيَّةِ اللهِ تعالَى، وأنَّه لا مَعبودَ بحقٍّ إلَّا اللهُ، ويَعترِفَ برِسالةِ محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ وأنَّه خاتمُ النبيِّينَ والمرسَلينَ، وأنه يجِبُ على جَميعِ العالَمينَ اتِّباعُه والإيمانُ به.ثمَّ أمَرَهم بإقامِ الصَّلاةِ، أي: المحافظةِ على أداء الصَّلواتِ الخَمسِ في أوقاتِها، بشُروطِها وأركانِها وواجباتِها.ثمَّ أمَرَهم بإيتاءِ الزَّكاةِ؛ وهي عِبادةٌ ماليَّةٌ واجِبةٌ في كُلِّ مالٍ بلَغَ المِقدارَ والحدَّ الشرعيَّ، وحالَ عليه الحَوْلُ -وهو العامُ القمَريُّ «الهِجريُّ»- فيُخرَجُ منه رُبُعُ العُشرِ، وأيضًا يَدخُلُ فيها زَكاةُ الأنعامِ والماشيةِ، وزَكاةُ الزُّروعِ والثِّمارِ، وعُروضِ التِّجارةِ، وزَكاةُ الرِّكازِ، وهو الكَنزُ المدفونُ الَّذي يُستخرَجُ مِنَ الأرضِ، وقيل: المعادِنُ، بحَسَبِ أنْصابِها، ووَقتِ تَزكيتِها. وفي إيتاءِ الزَّكاةِ على وَجهِها لِمُستحِقِّيها زِيادةُ بَرَكةٍ في المالِ، وجَزيلُ الثَّوابِ في الآخرةِ. وللبُخلِ بها ومَنعِها مِن مُستحقِّيها عَواقبُ وَخيمةٌ في الدُّنيا والآخرةِ، بيَّنَتْها نُصوصٌ كثيرةٌ في القُرآنِ والسُّنةِ، وهي تُصرَفُ لِمُستحقِّيها المذكورينَ في قولِه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].ثمَّ أمَرَهم بصِيامِ رَمضانَ، وهو الإمساكُ بنيَّةِ التعبُّدِ، عن الأكلِ والشُّربِ وغِشيانِ النِّساءِ، وسائرِ المُفطِّراتِ، مِن طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشَّمس. ثمَّ زاد: وأنْ تُعطُوا مِن المَغنَمِ الخُمُسَ؛ لأنَّهم كانوا مُجاوِرين لكُفَّارِ مُضَرَ، وكانوا أهلَ جِهادٍ وغَنائمَ، وتُطلَقُ الغَنيمةُ والمَغنَمُ على كلِّ ما أخَذَه المُسلِمونَ مِن أموالِ الكفَّارِ على وَجْهِ الغَلَبةِ والقَهْرِ، ويُعطُون الخُمسَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي حدَّدَه اللهُ في قولِه عزَّ وجلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]؛ ليُنفِقَهُ في أوجُهِه الشَّرعيَّةِ.واستُشكِل قولُه: «أمَرهم بأربعٍ» مع أنَّه ذكَر خَمسةً؟ وأُجيبَ بأنَّ أوَّلَ الأربعِ المأمورِ بها إقامُ الصَّلاةِ، وإنَّما ذكَرَ الشَّهادتينِ تَبرُّكًا بهما، وقيل: إنَّه عَدَّ الصَّلاة والزَّكاةَ واحدةً؛ لأنَّها قَرينتُها في كِتابِ اللهِ تعالى، أو أنَّ أداءَ الخُمُسِ داخلٌ في عُمومِ إيتاءِ الزَّكاة، والجامعُ بيْنهما إخراجُ مالٍ مُعيَّنٍ في حالٍ دونَ حالٍ.ثمَّ قال: ونَهاهم عن أربعٍ، والمرادُ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَهاهُم عن استعمالِ أربعٍ مِن الأواني في أطعِمَتِهم وأشرِبَتِهم؛
الأوَّلُ: عن الحَنْتَمِ، وهي الجَرَّةُ أو الجِرَارُ الخُضْرُ أو الحُمْرُ، أو هي ما طُلِيَ مِن الفَخَّارِ بالحَنْتَمِ المَعمولِ بالزُّجَاجِ وغيرِه ممَّا يسُدُّ المَسامَّ
والثاني: عن الدُّبَّاءِ، وهو اليَقْطِينُ «القَرْع»، والمَقصودُ النَّهيُ عن الوِعاءِ المُتَّخذِ منه بعْدَ حَفْرِه وتَفريغِه مِن مُحتواهُ ليُصبِحَ مِثلَ الوِعاءِ
والثالثُ: عن النَّقيرِ، وهو ما يُنقَرُ في أصلِ النَّخلةِ ويُجوَّفُ ليُصبِحَ مِثلَ الوِعاءِ
والرابعُ: عن المُزفَّتِ، وهو ما طُلِيَ بالزِّفتِ، وربَّما قال: المُقَيَّرُ، وهو ما طُلِيَ بالقَارِ، ويُقالُ له: المُقَيَّرُ، وهو نَبتٌ يُحرَقُ إذا يَبِسَ، تُطْلَى به السُّفنُ وغيرُها، كما تُطلَى بالزِّفتِ.والنَّهيُ عن استِخدامِ هذه الأوعيةِ بخُصوصِها؛ لِما يُسرِعُ إليها مِن تَأثيرٍ على ما فيها مِن طَعامٍ وشَرابٍ، فربَّما شَرِبَ منها مَن لم يَشعُرْ بتَغيُّرِها.ثمَّ رَخَّص صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَ ذلك في استخدامِ كلِّ وِعاءٍ، مع النَّهيِ عن شُرْبِ كلِّ مُسكِرٍ؛ كما ورَدَ في صَحيحِ مسلمٍ: «كنتُ نَهيتُكم عن الانتباذِ إلَّا في الأسقيةِ، فانتبِذوا في كلِّ وِعاءٍ، ولا تَشرَبوا مُسكِرًا». ثمَّ وَصَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في آخِرِ الحديثِ بحِفظِ كَلامِه هذا، وإخبارِ مَن وَراءِ السَّائلين مِن وَفدِ عبدِ القَيْسِ
وفي الحديثِ: وِفادةُ الفُضَلاءِ والرُّؤساءِ إلى الأئمَّةِ عندَ الأُمورِ المهمَّةِ
وفيه: تَقديمُ الاعتِذارِ بيْن يديِ المسألةِ
وفيه: بيانُ مُهمَّاتِ الإسلامِ وأركانِه سِوى الحجِّ
وفيه: أنَّ الأعمالَ تُسمَّى إيمانًا
وفيه: نَدْبُ العالِمِ إلى إكرامِ الفاضلِ
وفيه: استعانةُ العالِمِ في تَفهيمِ الحاضرينَ، والفَهمِ عنهم ببَعضِ أصحابِه
وفيه: أنَّه يَنْبغي للعالِمِ أنْ يحُثَّ النَّاسَ على تَبليغِ العِلمِ، وإشاعةِ أحكامِ الإسلامِ
وفيه: أنَّه لا عَيبَ على طالبِ العِلمِ والمُستفتي إذا قال للعالِمِ: أوضِحْ لي الجوابَ