‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1393

مسند احمد

‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1393

حدثنا يعقوب، أخبرنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني زياد بن أبي زياد، مولى ابن عباس، قال: انصرفت من الظهر أنا وعمر، حين صلاها هشام بن إسماعيل بالناس إذ كان على المدينة، إلى عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة نعوده في شكوى له، قال: فما قعدنا ما سألنا عنه إلا قياما، قال: ثم انصرفنا فدخلنا على أنس بن مالك في داره، وهي إلى جنب دار أبي طلحة، قال: فلما قعدنا أتته الجارية، فقالت: الصلاة يا أبا حمزة، قال: قلنا: أي الصلاة رحمك الله؟ قال: العصر، قال: فقلنا: إنما صلينا الظهر الآن، قال: فقال: إنكم تركتم الصلاة حتى نسيتموها - أو قال: نسيتموها - حتى تركتموها، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بعثت (2) والساعة كهاتين " ومد أصبعيه السبابة والوسطى

ما أعظَمَ أنْ تَسعَى المرأةُ بمَهرِها في أنْ يكونَ قُربةً تتقرَّبُ به إلى اللهِ عزَّ وجلَّ يومَ القيامَةِ!
وفي هذا الحديثِ يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ رضِيَ اللهُ عَنه: "خَطَب أبو طَلحَةَ أُمَّ سُلَيمٍ"، أي: طَلَبها للزَّواجِ، وكان أبو طَلحَةَ الأنصاريُّ رضِيَ اللهُ عَنه ما زال على الشِّركِ، وأمُّ سُليمٍ هي أمُّ أنَسِ بنِ مالِكٍ، فقالت له أمُّ سُليمٍ: "واللهِ ما مِثلُك يا أبا طَلحَةَ يُردُّ"، وفي هذا تَعظيمٌ له وحَثٌّ على أنْ يأتِيَ ما سيُطلَبُ منه؛ فلعلَّها قالتْ ذلك تمهيدًا له وترغيبًا في أنْ يَدخُلَ في الإسلامِ؛ لأنَّ مِثلَه له من العقلِ والفِطنةِ ما يَعرِفُ به الحقَّ ويَتَّبِعُه فيَدخُل في الإسلامِ، وأيضًا لعلَّها قالت ذلك؛ رَغبةً في الزَّواجِ من أبي طَلحةَ ولكن منَعَها من ذلك كُفرُه فتوصَّلتْ إلى بلوغِ غَرَضِها ببذلِ نفْسِها فظَفِرَتْ بالخيرينِ؛ بإسلامِه وبالزواجِ مِنه، "ولكنَّك رجلٌ كافِرٌ، وأنا امرأَةٌ مسلِمةٌ، ولا يَحِلُّ لي أنْ أتزوَّجَك، فإنْ تُسلِمْ"، أي: تَدخلْ في الإسلامِ، "فذاك مَهري"، والمَهْرُ: هو ما تَستحِقُّه المرأةُ بدلًا في النِّكاحِ، "وما أَسألُك غيرَه"، أي: مالًا، قال أنَسٌ رضِيَ اللهُ عَنه: "فأَسْلَم"، أي: أبو طَلحةَ رضِيَ اللهُ عَنه، "فكان ذلك"، أي: إسلامُه "مَهرَها"، أي: مَهرًا لأُمِّ سُليمٍ.
قال ثابِتٌ البُنانِيُّ راوي الحَديثِ عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رضِيَ اللهُ عَنه: "فما سمِعتُ بامرأةٍ قَطُّ كانتْ أكرَمَ مَهرًا مِن أمِّ سُليمٍ؛ الإسلامَ، فدَخَل بها فولَدَتْ له"، وهذا تَعظيمٌ لقَدرِها وبيانٌ لتَفضيلِها أجْرَ الآخرَةِ على ما يكونُ لها في الدُّنيا.
قيل: وقولُ أمِّ سُليمٍ في الحديثِ: "ولا يحِلُّ لي أنْ أتزوَّجَك" شاذٌّ مخالِفٌ للحَديثِ الصَّحيحِ؛ وذلك أنَّ أبا طَلحةَ ممَّن أَسلَم في أوائِلِ الهِجرةِ، وتَحريمُ المسلِماتِ على الكفَّارِ إنَّما جاء بين الحُديبيَةِ والفَتحِ كما روَى البخاريُّ؛ فيكون الحديثُ وإنْ كان صحيحَ الإسنادِ إلَّا أنَّه مُعلَّل بما ذَكَره البخاريُّ. ولكنِ الصَّوابُ: أنَّها علَّقَت زواجَها به على إسلامِه دُونَ تَقييدٍ بالنَّهيِ الوارِدِ في قولِه تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
واستُشكِل فِعلُ أبي طَلحةَ مع حَديثِ الهِجرةِ؛ حيثُ قال صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ومَن كانتْ هِجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها، أو إلى امرأةٍ يَنكِحُها، فهِجرتُه إلى ما هَاجَر إليه"، ولا إشكالَ في ذلك؛ إذ دُخولُ الشَّخصِ في الإسلامِ لأيِّ سبَبٍ مِن الأسبابِ لا يَضرُّه، إذا حَسُنَ بعد ذلك إسلامُه؛ إذ بعضُ المؤمنين الأوَّلين هكذا كان دُخولُهم في الإسلامِ، ثمَّ رَزَقهم اللهُ تعالى الثَّباتَ فيه؛ ولذلك جعَل اللهُ تعالى في الصَّدقاتِ قِسْمَ المؤلَّفَةِ قُلوبُهم، فكثيرٌ مِن النَّاسِ يَدخُلُ في الإسلامِ طمَعًا في مالٍ أو جاهٍ، ثمَّ يدخُلُ الإيمانُ في قَلبِه، فيكونُ مِن خِيارِ المسلمين؛ فلعلَّ أبا طَلحةَ رَضِي اللهُ عنه مِن هذا القَبيلِ، وإنَّما الَّذي يَضُرُّه أنْ يكونَ بعدَ دُخولِه في الإسلامِ لا حاجَةَ له إلَّا غَرَضُه ذلك؛ بحيثُ لو قُدِّر أنْ فَقَدَه لم يَثبُتْ على الإسلامِ؛ كما قال اللهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج: 11]؛ الآيةَ.
وفي الحديثِ: فَضلٌ كبيرٌ ومَنقبةٌ جليلةٌ لأمِّ سُليمٍ رضِيَ اللهُ عنها؛ حيث جعَلَت مَهرَها دُخولَ زَوجِها في الإسلامِ.