مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه837
مسند احمد
قال: أبو عبد الرحمن قرأت على أبي هذا الحديث، وجده فأقر به، وحدثنا ببعضه في مكان آخر، قال: حدثنا موسى بن هلال العبدي، حدثنا همام، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك قال: تزوج أبو طلحة أم سليم وهي أم أنس، والبراء، قال: فولدت له بنيا. قال: فكان يحبه حبا شديدا. قال: فمرض الغلام مرضا شديدا، فكان أبو طلحة يقوم صلاة الغداة يتوضأ، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي معه، ويكون معه إلى قريب من نصف النهار، فيجيء فيقيل ويأكل، فإذا صلى الظهر تهيأ وذهب، فلم يجئ إلى صلاة العتمة. قال: فراح عشية، ومات الصبي. قال: وجاء أبو طلحة، قال: فسجت (1) عليه ثوبا، وتركته. قال: فقال لها أبو طلحة: يا أم سليم، كيف بات بني (2) الليلة؟ قالت: يا أبا طلحة، ما كان ابنك منذ اشتكى أسكن منه الليلة، قال: ثم جاءته بالطعام، فأكل وطابت نفسه. قال: فقام إلى فراشه، فوضع رأسه، قالت: وقمت أنا، فمسست شيئا من طيب، ثم جئت حتى دخلت معه الفراش، فما هو إلا أن وجد ريح الطيب كان منه ما يكون من الرجل إلى أهله. قال: ثم أصبح أبو طلحة يتهيأ كما كان يتهيأ كل يوم، قال: فقالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن رجلا استودعك وديعة، فاستمتعت بها، ثم طلبها، فأخذها منك تجزع من ذلك؟ قال: لا. قلت: فإن ابنك قد مات. قال أنس: فجزع عليه جزعا شديدا، وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من أمره (1) في الطعام والطيب، وما كان منه إليها. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هيه (2) فبتما عروسين وهو إلى جنبكما؟ " قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بارك الله لكما في ليلتكما ". قال: فحملت أم سليم تلك الليلة، قال: فتلد غلاما، قال: فحين أصبحنا، قال لي أبو طلحة: احمله في خرقة حتى تأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحمل معك تمر عجوة. قال: فحملته في خرقة. قال: ولم يحنك، ولم يذق طعاما ولا شيئا، قال: فقلت: يا رسول الله، ولدت أم سليم، قال: " الله أكبر ما ولدت؟ " قلت: غلاما، قال: " الحمد لله "، فقال: " هاته إلي "، فدفعته إليه، فحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: " معك تمر عجوة؟ " قلت: نعم، فأخرجت تمرا (3) ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرة وألقاها في فيه، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوكها حتى اختلطت بريقه، ثم دفع الصبي. فما هو إلا أن وجد الصبي (4) حلاوة التمر جعل يمص حلاوة (5) التمر وريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان أول ما تفتحت (1) أمعاء ذلك الصبي على ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حب الأنصار التمر "، فسمي عبد الله بن أبي طلحة قال: فخرج منه رجل كثير، قال: واستشهد عبد الله بفارس (2)
وفي هذا الحَديثِ يقولُ أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: "تَزَوَّجَ أبو طَلحةَ أُمَّ سُلَيمٍ -وهي أُمُّ أنَسٍ، والبَراءِ-، قالَ: فوَلَدتْ له بُنَيًّا"، أي: ولدًا ذَكَرًا، "فكانَ يُحِبُّه حُبًّا شَديدًا، قالَ: فمَرِضَ الغُلامُ مَرَضًا شَديدًا، فكانَ أبو طَلحةَ يَقومُ صَلاةَ الغَداةِ يَتوَضَّأُ، ويَأتي النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيُصَلِّي معه"، أي: كانَ مِن عادةِ أبي طَلحةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنْ يَتجَهَّزَ بالوُضوءِ، فيَذهَبَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُصَلِّيَ معه الصُّبحَ، "ويَكونُ معه إلى قَريبٍ مِن نِصفِ النَّهارِ"، فيَبقَى مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى وَقتِ ما قَبلَ الظُّهرِ، "فيَجيءُ" إلى مَنزِلِه، "فيَقيلُ"، أي: يَنامُ بَعضَ الوَقتِ، "ويَأْكُلُ" غَداءَه، "فإذا صَلَّى الظُّهرَ تَهَيَّأ"، بلُبْسِ ثِيابِه وتَجهيزِ نَفْسِه، وذَهَبَ وانصَرَفَ مِن مَنزِلِه، "فلم يَجِئْ إلى صَلاةِ العَتَمةِ" وهي صَلاةُ العِشاءِ.
قال أنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنه: "فَراحَ عَشيةً"، أي: وَقتَ العِشاءِ، "وماتَ الصَّبيُّ" وقد جاءَ في صَحيحِ ابنِ حِبَّانَ أنَّ هذا الابنَ هو أبو عُمَيرٍ الذي كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُداعِبُه بقَولِه: يا أبا عُمَيرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيرُ؟ "قالَ: وجاءَ أبو طَلحةَ، قالَ: فسَجَّتْ عليه ثَوبًا وتَرَكَتْه"، يَعني: أنَّ أُمَّ سُلَيمٍ لَمَّا ماتَ الصَّبيُّ غَطَّتْه بثَوبٍ وتَرَكتْه كَأنَّه نائِمٌ، دُونَ أنْ تُخبِرَ أحَدًا، أو زَوجَها، فقالَ لها أبو طَلحةَ: "يا أُمَّ سُلَيمٍ، كيفَ باتَ بُنَيَّ اللَّيلةَ؟ قالتْ: يا أبا طَلحةَ، ما كانَ ابنُكَ مُنذُ اشتَكَى أسكَنَ منه اللَّيلةَ"، وهذه تَوريةٌ بأنْ قد سَكَنَ وهَدَأَ بالمَوتِ، "قالَ: ثم جاءَتْه بالطَّعامِ، فأكَلَ وطابَتْ نَفْسُه"، أي: سَعِدتْ ورَضِيَتْ، "فقامَ إلى فِراشِه، فوَضَعَ رَأسَه" لِيَنامَ، قالتْ أُمُّ سُلَيمٍ رَضِيَ اللهُ عنها: "وقُمتُ أنا، فمَسِسْتُ شَيئًا مِن طِيبٍ"، وهو العِطرُ جَميلُ الرَّائِحةِ، "ثم جِئتُ حتى دَخَلتُ معه الفِراشَ"؛ لِأنامَ بجِوارِه، "فما هو إلَّا أنْ وَجَدَ رِيحَ الطِّيبِ، كانَ منه ما يَكونُ مِنَ الرَّجُلِ إلى أهلِه"، وهذا كِنايةٌ عن وُقوعِ الجِماعِ بيْنهما، قالَ أنَسٌ: "ثم أصبَحَ أبو طَلحةَ يَتهَيَّأُ كما كانَ يَتهَيَّأُ كُلَّ يَومٍ"، أي: يُجَهِّزُ نَفْسَه لِلخُروجِ كما هي عادَتُه، فقالت له أُمُّ سُلَيمٍ: "يا أبا طَلحةَ، أرَأيتَ لو أنَّ رَجُلًا استَودَعَكَ وَديعةً"، أي: جَعَلَها عِندَكَ أمانةً تَحفَظُها، "فاستَمتَعتَ بها"، حيثُ جَعَلَ لكَ يَدَ التَّصرُّفِ على وَديعَتِه وأمانَتِه، "ثم طَلَبَها، فأخَذَها مِنكَ؛ تَجزَعُ مِن ذلك؟" أي: تَحزَنُ لأنَّه أخَذَ مِنكَ أمانَتَه؟ "قالَ: لا. قُلتُ: فإنَّ ابنَكَ قد ماتَ"، وهذا مِن حُسنِ عَزاءِ المَرأةِ لِزَوجِها. "قالَ أنَسٌ: فجَزِعَ عليه جَزَعًا شَديدًا"، أي: حُزْنًا وألَمًا على مَوتِه، "وحَدَّثَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما كانَ مِن أمْرِه في الطَّعامِ والطِّيبِ، وما كانَ منه إليها، قالَ: فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هِيهِ!" وهي كَلِمةٌ لِلتَّعجُّبِ والارتياحِ، وقيلَ: هي كَلمةٌ يُرادُ بها الاستِزادةُ في الحَديثِ، "فبِتُّما عَروسَيْنِ"، أي: مِثلَ العَروسَيْنِ، "وهو إلى جَنبِكما؟" وهو مَيِّتٌ بجِوارِكما دُونَ عِلْمِكَ؟ "قالَ: نَعَمْ يا رَسولَ اللهِ. فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بارَكَ اللهُ لكُما في لَيلَتِكما"، أي: أرْجو مِن اللهِ أنْ يُبارِكَ لكما في لَيلَتِكما ويُعَوِّضَكما عن فَقيدِكما بالخَلَفِ الصَّالِحِ، قالَ أنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنه: "فحَمَلتْ أُمُّ سُلَيمٍ تلك اللَّيلةَ" بقُدْرةِ اللهِ، وفَضْلِ إجابةِ دَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فتَلِدُ غُلامًا"، يَعني: وَلَدتْ ذَكَرًا بَعدَ انتِهاءِ مُدَّةِ حَملِها، قالَ: "فحِين أصْبَحنا" مِن يَومِ وِلادةِ هذا المَولودِ، "قالَ لي أبو طَلحةَ: احمِلْه في خِرقةٍ حتى تَأتيَ به رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"؛ وذلك لِيُبارِكَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والخِرْقةُ: القِطعةُ مِنَ القُماشِ، "واحمِلْ معكَ تَمْرَ عَجوةٍ" وهو نَوعٌ طَيِّبٌ مِن تَمْرِ المَدينةِ.
قالَ أنَسٌ: "فحَمَلتُه في خِرقةٍ، ولم يُحَنَّكْ"، أي: ولم يَسبِقْ تَحنيكُه، والتَّحنيكُ: أنْ يَمضُغَ المَرْءُ التَّمْرَ أو شَيئًا حُلوًا، ثُمَّ يَدلُكَ به حَنَكَ المَولودِ، وتُحَكَّ فيه حتَّى تَتحَلَّلَ في فَمِه، "ولم يَذُقْ طَعامًا ولا شَيئًا"، أي: لمْ يَدخُلْ جَوفَه أيُّ شَيءٍ، "فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، وَلَدتْ أُمُّ سُلَيمٍ. قالَ: اللهُ أكبَرُ، ما وَلَدتْ؟ قُلتُ: غُلامًا، قالَ: الحَمدُ للهِ، فقالَ: هاتِهْ إلَيَّ، فدَفَعتُه إليه"، فأعْطَيتُ الطِّفلَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فحَنَّكَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ قالَ له: معكَ تَمْرُ عَجوةٍ؟ قُلتُ: نَعَمْ، فأخرَجتُ تَمْرًا، فأخَذَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَمْرةً وألْقاها في فِيه"، أي: وَضَعَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في فَمِه، "فما زالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَلُوكُها"، أي: يُحرِّكُها ويَمْضُغُها في فَمِه، "حتى اختَلَطتْ بِريقِه" وهو لُعابُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "ثم دَفَعَ الصَّبيَّ، فما هو إلَّا أنْ وَجَدَ الصَّبيُّ حَلاوةَ التَّمْرِ"، فشَعَرَ بطَعْمِه، "جَعَلَ يَمُصُّ حَلاوةَ التَّمْرِ ورِيقَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكانَ أوَّلُ ما تَفتَّحتْ أمعاءُ ذلك الصَّبيِّ على رِيقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أي: كانَ أوَّلُ ما دَخَلَ إلى جَوفِ الطِّفلِ هو التَّمْرَ مع رِيقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" وهو يَنظُرُ إلى الطِّفلِ: "حُبُّ الأنصارِ التَّمْرَ!" ومعناه: أنَّ عادةَ الأنصارِ حُبُّ التَّمْرِ مُنذُ صِغَرِهم، وقيلَ: المَعنى: انظُروا إلى حُبِّ الأنصارِ التَّمْرَ، حتى إنَّ أطفالَهم يُحِبُّونَه، "فسُمِّيَ عَبدَ اللهِ بنَ أبي طَلحةَ"، سَمَّاهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأحَبِّ الأسماءِ إلى اللهِ تعالَى، قالَ أنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنه: "فخَرَجَ منه رَجُلٌ كَثيرٌ"؛ فقدِ استَجابَ اللهُ دَعوةَ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ورَزَقَهما اللهُ تِسعةَ أولادٍ مِن وَلَدِهما عَبدِ اللهِ الذي حَمَلتْ به تلك اللَّيلةَ، كُلُّهم قد قَرَأ القُرآنَ وصارَ حافظًا له؛ جَزاءً لهما على صَبْرِهما، "واستُشهِدَ عَبدُ اللهِ بفارِسَ"، أي: نالَ الشَّهادةَ في سَبيلِ اللهِ بأرضٍ كانَ يَحكُمُها الفُرْسُ مِن قَبْلُ.
وفي الحَديثِ: فَضْلُ أُمِّ سُلَيمٍ رَضِيَ اللهُ عنها، واتِّصافُها بالصَّبرِ على البَلاءِ، والرِّضا بالقَضاءِ، والتَّسليمِ لأمْرِ اللهِ في الضَّرَّاءِ.
وفيه: فَضْلُ الصَّبرِ، وعاقِبَتُه الحَميدةُ، والتَّعويضُ العاجِلُ لِكُلِّ مَن صَبَرَ عِندَ الصَّدْمةِ الأُولى.
وفيه: ذِكرُ المَعاريضِ المُوهِمةِ إذا دَعَتِ الضَّرورةُ إليها، بشَرْطِ ألَّا تُبطِلَ حَقًّا لِمُسلِمٍ.
وفيه: حَضٌّ على حُسنِ مُعاشَرةِ المَرأةِ لِزَوجِها.